مرّ في التاريخ خطفاً، بعيداً عن الأضواء والفردانية.كان عيسى البطاط يؤمن بضرورة الالتزام الفردي تجاه الجماعة، أي إنّ على كلّ فرد تحمّل المسؤولية الجماعية التي تقع على عاتقه، والذهاب إلى أقصى طرق التضحية في سبيل حقّ الجماعة في العيش والاستقلال والتحرر من الظلم والاضطهاد.
يعود أصل الأسير عيسى البطاط، والمحكوم بثلاثة مؤبدات وأربعين سنة، إلى قرية الظاهرية جنوب الخليل. وُلد وعاش في بيت لحم، وأعطته هذه المدينة كلّ ما يمكن أن تعطيه أمّ، الملجأ والبيت والرفاق، العائلة وتجارب الاشتباك الأولى والطويلة. خبأتهُ بيت لحم حولين في جبالها، وبكتهُ كما لم يبكهِ أحد، وجدران الدير العتيق تشهد.

لا يزال عيسى البطاط إلى الآن سرّاً، سرّاً عميقاً لم يصل إليه إلا بضعٌ من الأنوية الصلبة حوله، ولا أنكر محاولاتي الكثيرة في كتابة هذا الإنسان الّذي دائماً ما رغبتُ في فكّ شيفرته، والوصول إلى أغوار نفسه. فقد كان دائماً قليل الكلام عن نفسه، أسدل الستار على متعة الأضواء والكاميرا والصالونات، ولم يترك أيّ شيءٍ مكتوبٍ عنه، ورفض الحديث إلى الصحافة دائماً، وحتى إليّ أنا الّتي تجمعني بهِ صلة دم. كان يقول دائماً بما معناه، لا تكتبي عنّي فهناك من يستحقون الكتابة عنهم، ويقترح عليّ رفاقاً له في الأسر، ويقول لي: أنا لا أحبّ أن يكتبني أحد. ربّما كان محقّاً؛ فالكتابة عن هذا الإنسان الّذي لا نعرف عنه شيئاً، إلا من رفاق له في الأسر خرجوا، أو من ناس رافقوه قديماً، هو ظلم. فكيف يكتب المرء ما يجهل؟
يقول علي في مسلسل التغريبة الفلسطينية: «وقريباً يموت آخر الشهود المجهولين، آخر الرواة المنسيّين، أولئك الّذين عرفوه أيّام شبابهِ، جواداً، برّياً لم يُسرَج بغير الرّيح، فمن يحمل عبء الذاكرة؟ ومن يكتب سيرة من لا سيَر لهم في بطون الكتب؟ أولئك الّذين قسّموا جسومهم في جسوم الناس، وخلّفوا آثاراً عميقة تدلّ على غيرهم، ولكنّها لا تدلّ عليهم».
هنا سأسلّط الضوء على قلعةٍ من قلاع الأسر، على إنسان عجنته عذابات الخطو نحو هذه البلاد، وسرّاً يزداد غموضاً كلّما توغّل في الزمان.
كان عيسى البطاط مسؤولاً محليّاً في «حركة الجهاد الإسلامي»، إقليم بيت لحم، التحق بركب الكفاح المسلّح منذ نعومة أظافره، قبل أن يُتمّ الـ18 عاماً. عاش في الظّل، لم يعرف أحد العقلية الفذّة الّتي تقف خلف كثير من العمليّات الاستشهادية، الّتي ضاعف صمتُ العارفين غموضها. إذ يُروى من مصادر مقرّبة لعيسى البطاط أنّه لم يخطر ببال أحد أنّ هذا الشّاب يُمكن أن يفعل هذا كلّه!
سألت: وما هو هذا كلّه؟
قال: كان يخطط لعمليات مدوّية، الّتي لا تزال مجهولةً حتى الآن! يعني أننا كنّا نعرف أنّ عيسى كان يخطّط ويرسل استشهاديين، ولكن لم يعرف بهذه العمليات إلا قلّة ممن حفظوا السّر، وممن وقع عليهم الاختيار.
يروي أحد أفراد عائلة البطاط موقفاً قديماً عاشه عيسى مع أمٍّ اعتُقل نجلها، بقهر قالت: وين اللّي بودّي أولادنا يستشهدوا ومش سائل عنا! ولم تكن تعرف أنّ هذا الّذي تتحدّث عنه هو عيسى، عيسى الّذي تحبه، ويأتي إليها دائماً حاملاً لها كلّ ما استطاعت يده أن تطاله.
كان عيسى يُقاتل في الظّل، وفي المقدمة بوجهه، ينتقي أسلوبه في مقاومة جلّاده، ولا يدع أحداً يسلبه حقّه في ذلك. فعندما هُدّد قاوم، وعُذّب وطورد في الجبال ببطن خاوية تحسّ بآلام شعبه وتستحضرها منذ عشرات العقود. انتقى أسلوب التنين والصياد تارة، وأسلوب المُطارِد تارة أخرى، أسلوب الإرادة الصلبة في الزنازين، ورقبة من حديد أمام سوط الجلّاد.
عاش عيسى البطاط تجربة اعتقاله الأولى سنة 1989 بعمر 17 عاماً، أمضى في سجن النقب 4 سنوات، ثمّ خرج ليكمل كفاحه بقلب لا يُضام. هدّد جيش الاحتلال السلطة الفلسطينية سنة 1996 باجتياح بيت لحم إذا لم تضع السلطة حدّاً لعيسى ونشاطاته في المنطقة، وتمّ اعتقال عيسى من قِبل أجهزة الأمن في السنة نفسها، والإفراج عنه لاحقاً من سجن أريحا إبّان الانتفاضة، لأنّ حياته باتت مهدّدة بخطر واضح.

المطاردة والاعتقال الأخير
عقب خروجه من سجن أريحا، أمضى البطاط عامين مطارداً في وديان بيت لحم وشوارعها وجبالها، لم تنزل البندقية عن كتفه، وفي زهده عن الفردانية، يُقال إنّه أثناء مطاردته لم يرَ عائلته عاماً كاملاً!
فقد كان البطاط أول اسم على لائحة الاغتيال في بيت لحم، واعتُقل أشقاؤه، وهُدّد وأُهين وعُذّب ونُسفَ بيته، استشهد رفاقه، وصديقه المقرّب أسامة العسعس، الّذي طالته يدُ اغتيال جبانة لكسر عيسى، هدّدوا شقيقه بأنّ «لعيسى صاروخاً على اسمه»، توعّداً باغتياله، هذا كلّه لأنه أراد حقّه في امتلاك تاريخه ومستقبله، هذا التاريخ الّذي أورِثَ إليهِ بالدّم، ورآه ذكرى مصوّرة.
حدث الاعتقال الأخير سنة 2003، حُظر التجول في بيت لحم يوم اعتقاله في 14 حزيران، رصدت المناطيد الجوية مكان عيسى، بعد وصول أخبارٍ من كلاب الأثر. وانطلقت قوات طوقت أحد الجبال في منطقة العبيات شرق بيت لحم. كان عيسى مختبئاً في حفرة تحت مغارة في أحد الجبال، وكانوا يعرفون مكانها تماماً، فقد رشّوا غازاً كثيفاً أفقد عيسى الوعي، ثمّ جرى الاعتقال.
هذه ليست سيرة بقدر ما هي محاولة يائسة ويتيمة وظالمة لكتابة الصامتين، الّذين يحملون سيرهم في قلوبهم ويأخذون أسرارهم معهم أنّى ذهبوا، وعيسى البطاط واحدٌ من آلاف الّذين مضوا إلى بطولاتهم صامتين.

* كاتبة فلسطينية