عبد الحليم فضل اللهيقدّم مشروع «الاتحاد من أجل المتوسط» دليلاً آخر على الفراغ الذي تعانيه المنطقة. فمنذ أن تخلى العرب عن خطط التكامل الإنتاجي الطامحة إلى تحقيق الوحدة الاقتصادية، صارت دولهم متلقية صافية للمشاريع والمبادرات الخارجية، فيما تراجعت فكرة العالم العربي التي تمثل وجودهم السياسي، ليجري التعامل معها كأحد مخلفات الحرب الباردة. في مطلع التسعينيات، عُدَّت المنطقة العربية حلقة مهمة في إطلاق النظام العالمي الجديد، فشهدت موجة من الاهتمام الدولي الهادف إلى تأهيل دولها للاندماج بالاقتصاد العالمي، وتشجيعها على التخلي عن الاقتصاد الموجه، ومساعدة «إسرائيل» على تأدية دور مركزي ومحرك للاقتصاد الإقليمي. وهذا ما جسده مشروع الشرق الأوسط الجديد، وعبرت عنه المفاوضات متعددة الطرف في مسائل المياه والبيئة والتنمية الاقتصادية، التي سارت جنباً إلى جنب مع المفاوضات الثنائية... وفي عام 1995 وقّعت 15 دولة أوروبية و12 دولة متوسطية، من بينها سبع دول عربية اتفاق برشلونة، لينطلق مسار الشراكة الأوروبية المتوسطية، فيرسم السياسة المتوسطية لأوروبا على أساس الربط بين هدفين: دعم الأمن والاستقرار، وتعزيز التنمية الاقتصادية الاجتماعية.
الرؤية التي حملتها إدارة جورج بوش كان لها وقع مختلف، إذ تجاذبتها الأطماع والمخاوف في آن: الرغبة بالاستئثار بقرار المنطقة، والخشية من أن تقع فريسة، لا في قبضة الخصوم فحسب، بل في أيدي الحلفاء والمنافسين. التسمية بدورها تغيرت، ليصبح المشروع موجهاً لما سمي «الشرق الأوسط الكبير». لم تقدم الولايات المتحدة في إطار هذا المشروع الكثير من الالتزامات بشأن دعم جهود التنمية والنمو ومساندتها، فالأولوية هي لمعالجة ضعف التكوين السياسي للمنطقة، الناجم عن غياب الديموقراطية ونقص المعرفة و«تفشي الإيديولوجيات الدينية»، وبحسب هذه الرؤية فإنّ تجفيف منابع الإرهاب والحد من الهجرة، يتطلبان إعادة تركيب الشرق الأوسط على أسس جديدة.
أما مبادرة الرئيس الفرنسي، لإقامة اتحاد بين ضفتي المتوسط، فقد استفادت من أمرين: المأزق الأميركي من جهة، وبطء أو تعثّر مسار برشلونة من جهة ثانية، الأمر الذي شجع على إحياء الأفكار التي طمستها حرب العراق، وساعد على عودة المستبعدين عن تأدية دور في المنطقة، وقد تضمن الإعلان الذي صدر في اجتماع ضم أكثر من 43 دولة أوروبية ومتوسطية، مزيجاً من الأهداف التي قامت عليها المبادرات السابقة، وأولى اهتماماً متوازياً للجوانب: الأمنية (الدعوة إلى مكافحة الإرهاب وإحلال الأمن، وخلو المنطقة من أسلحة الدمار الشامل)، والسياسية (دعم التسوية، ونشر الديموقراطية والتعددية السياسية)، والاقتصادية (مساندة جهود الازدهار والاستقرار والتأسيس لستة مشاريع إقليمية: مكافحة التلوث، وإنشاء شبكات من الطرق البرية والبحرية، والاستعداد لمواجهة الكوارث، والاستثمار في الطاقة البديلة، ومساندة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة)، والإعلان هو مثابة إعادة توزيع للأدوار داخل أوروبا وبين ضفتي الأطلسي.
تشير الفروق الواضحة بين المشاريع الثلاث إلى قوة التحولات التي مرت بها المنطقة والعالم بين حرب الخليج الأولى وبدء الحديث عن وضع جدول زمني للانسحاب من العراق. فجسد مشروع الشرق الأوسط الجديد موقف إدارة كلينتون التي رأت أنّ استقرار المنطقة وازدهارها هما ضمانة المصالح الأميركية فيها، ووجدت أنّ حماية ونفوذ «إسرائيل» وتعزيزه يتمثلان في توسيع الشراكة مع دول الجوار. وهذا لا يكون عبر علاقات تجارية عادية فحسب، بل يأتي في سياق مشاريع إقليمية طموحة تساعد على تقوية المصالح المشتركة، وقد أنجز البنك الدولي لهذا الغرض مخططات وتصاميم في مجالات عدة، كالطرق والطاقة والمياه، كما سبق لدولة العدو أن أعدت قبل ذلك عشرات الخطط الهادفة إلى دعم التكامل الإقليمي.
ورغم أن الشراكة المتوسطية مزجت بين أولويتي التنمية والاستقرار، فإنّ فكرتها الرئيسية هي أن الحد من المشكلات الدولية كالهجرة و«الإرهاب»، يكون بالتعامل مع الأسباب في الدول المصدرة للأزمات، لا مع النتائج في الدول المتلقية لها. وقد قام التصور الأوروبي للعلاقة مع دول الجنوب على ثلاثة مبادئ: 1ـــــ التنمية والنمو هما عاملان أساسيان في صنع الاستقرار، 2ـــــ لا بد لأوروبا من مدى حيوي يسمح لها بتقاسم المنافع مع الولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأوسط، 3ـــــ لن تحقق الشراكة أهدافها ما لم تترافق مع جهود للإصلاح الاقتصادي/ الاجتماعي والإداري.
وبينما منح مشروع الشرق الأوسط الكبير أولوية مطلقة للتغيير السياسي والثقافي، جاء مشروع الاتحاد من أجل المتوسط لكي يوازن ما بين السياسة والاقتصاد، مستعيراً من حقبة التسعينيات مبدأ المشاريع المشتركة لكونه جزءاً لا يتجزأ من أي مسعى للتكامل الإقليمي.
تتعامل المشاريع والمبادرات المطروحة مع العالم العربي بوصفها مساحة للمنافسة وتقاسم النفوذ، وبدلاً من أن تنعكس إيجاباً على النمو والازدهار، فقد أخفقت في تحقيق معظم أهدافها، وزادت من انكشاف المنطقة، مقللةً من قدرة دولها على صياغة مشروعها الخاص المبني على طموحات أبنائها وخياراتهم.
لا يمكن الفصل بين التعاون الإقليمي والتنمية والإصلاح، وكلا الأمرين يتطلب تعاوناً فعّالاً في ما بين الدول العربية نفسها، ومع الجوارين الآسيوي والأفريقي. أما التعاون مع الشركاء الأكثر تطوراً، فإنّ شرطه الأساسي هو قيام علاقات متكافئة، وهذه تتطلب قوة تفاوضية لا يمكن اكتسابها ما لم ينتج العرب توافقاتهم الخاصة ويضعوا مصالحهم في سلة واحدة.