عام ونصف عام من اللاشيء.
لا يملك سعيد حزباً، بل عُرف بشيطنته الأحزاب ودعوته إلى «حكم الجماهير»
منذ الأيام الأولى لدخوله قصر قرطاج في تشرين الثاني 2019، وسط تهليل أنصاره من الإسلاميّين الذين صوّتوا له بكثافة، خاصة في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية الأخيرة، بدا سعيد، بالنسبة إلى كثيرين، أشبه بالزعيم الليبي الراحل، معمر القذافي، على رغم اختلاف الحالتين جوهرياً. إذ رفض الأوّل الإقامة في القصر الرئاسي، وتمسّك بالإقامة في بيته المتواضع في حيّ المنيهلة الشعبي على تخوم العاصمة، حيث كان يحرص على أداء صلاة الفجر في المسجد القريب من بيته، ويتنقّل في صلاة الجمعة بين مساجد الأحياء الشعبية، ولا يترك فرصة من دون الاستشهاد بالقرآن والشعر الشعبي القديم واستحضار صورة عمر بن الخطاب في عدله، وكلّ ذلك بلغة عربية وصوت جهوري يذكّران بإذاعة «صوت العرب» في الستينيات زمن جمال عبد الناصر. كما لم يتوقّف سعيد، طيلة عام ونصف عام من الحكم، عن مهاجمة «الفاسدين الذين يتآمرون في الغرف المظلمة»، وتوعّدهم بأن له «صواريخ على منصّاتها» جاهزة للإقلاع. أمّا «شباب الثورة» في محافظتَي سيدي بوزيد والقصرين، منطلق «الانفجار الثوري» كما سمّاه، فقد قال لهم في زياراته الليلية إن «الدستور أكله الحمار»، وإن الدستور الحقيقي هو ما« تكتبونه على الجدران».
لكن سعيد تحوّل، خلال تلك الفترة، إلى مادّة تندّر في الشارع التونسي، إذ لم يقدّم مبادرة تشريعية واحدة للقطْع مع «منظومة الخراب» كما يسمّيها جزء كبير من التونسيين، بل اكتفى بترديد الشعارات والخطب بلغة «خشبية»، فيما كانت أصوات المثقّفين والجامعيين والنخبة بصفة عامّة تُواصل تدبيج المقالات والتدوينات ضدّ هذا «الرئيس الغامض» أو «الرئيس البدعة» (وفق التسمية التي أطلقها عليه الكاتب الصحافي نزار بهلول)، الذين كانت شعبيّته بين أنصاره تتراجع يوماً بعد يوم. هكذا، لم يُسجَّل للرئيس الذي عطّل عمل الحكومة برفضه أداء الوزراء الجدد الذين عُيّنوا بموجب تعديل وزاري لم يكن موافقاً عليه - علماً أنه ليس من صلاحياته رفض التعديل الوزاري -، اليمين الدستوري، أيّ إنجاز يُذكر سوى إلقاء الدروس في الفقه الدستوري على مَن يلتقيهم، وكأنه لم يغادر قاعة الدرس، مواصلاً حملته الانتخابية أو «هذيانه» كما يقول منتقدوه. وعلى رغم أنه لا أحد يشكّك في نظافة يده، حتى أنه لم يتدخّل حين تمّ نقل زوجته القاضية إلى مدينة صفاقس من دون أن تطلب ذلك، إلّا أن الشارع التونسي لم يكن يحتاج إلى رئيس نظيف فقط، بل إلى رئيس فاعل، وهو ما حاول سعيد الاستجابة له بقرارات 25 تموز.
ماذا بعد؟
لا يملك سعيد حزباً، بل عُرف بشيطنته الأحزاب ودعوته إلى «حكم الجماهير»، إلّا أن الخطوات التي اتخذها أخيراً للخروج من عنق الزجاجة، واعتزامه الدعوة إلى تغيير النظامين السياسي والانتخابي، ستجد أصداءً لها ليس في أوساط الفقراء والمهمّشين الذين يحرص على التواصل معهم باستمرار في الأحياء الشعبية وأحزمة العاصمة الفقيرة، بل حتى بين النخب والأحزاب التي عادت لتبارك خطواته الهادفة إلى «تحرير الجمهورية» كما تقول. لكن، بمعزل عن التأييد والرفض، يبقى السؤال: إلى أين يتّجه «ربّان السفينة التائهة» كما سمّاه نزار البهلول في كتابه، وسط رهانات دولية وإقليمية غير واضحة المعالم، في بلد فقد أكثر من 20 ألفاً من مواطنيه بسبب جائحة «كوفيد - 19»، ولا يزال يعاني من انهيار اقتصادي غير مسبوق، مواجِهاً خطر الإفلاس.