الخرطوم | لم يتوقّع أكثر السودانيين تشاؤماً من سكان الخرطوم الذين قرّروا أن يستغلّوا مهلة اليوم الواحد، يوم السبت الماضي، في التحرّك داخل العاصمة لقضاء بعض احتياجاتهم، وتفقّد أهاليهم ومنازلهم التي تركوها مجبرين قبل أكثر من خمسين يوماً، أن يكون الدمار الذي أصاب مدينتهم بهذا الحجم الكارثي. ومع عودة حركة المارة ووسائل المواصلات بشكل جزئي إلى وسط الخرطوم للمرّة الأولى منذ اندلاع الحرب في منتصف نيسان الماضي، بعدما كانت مظاهر الحياة والحركة قد تلاشت بشكل كامل، أكمل المواطنون مهمّتهم على عجل، وهم يعاينون مظاهر الدمار والحرائق والتخريب الشامل التي لحقت بكل الشوارع والأسواق والمحالّ التجارية في وسط العاصمة، قبل عودة الاشتباكات، وهو ما حصل بالفعل فجر الأحد.ولكن، لماذا لا تصمد تلك الهدن المتتالية التي أُعلن عنها منذ بداية الحرب؟ وأيّ الطرفَين يتحمّل مسؤولية خرقها، وما هي أسباب انهيارها في الأساس؟ كل هذه الأسئلة تظلّ معلّقة تنتظر تفسيراً في حربٍ اتّفق الجميع على وصفها بـ«العبثية»، ما يجعل تحليل مجرياتها ومآلها أمراً صعباً، ذلك أن الثابت الوحيد فيها هو أنها بلا أهداف واضحة. فعلى المستوى العسكري، اعتقد كلا الطرفَين المتحاربَين (الجيش وقوات «الدعم السريع»)، عند اندلاع القتال، أن المعركة لن تستمرّ طويلاً، وأن حسم أحدهما لها ليس إلّا مسألة وقت؛ وظلّ قادة الجيش يعلنون، منذ الأيام الأولى، أن الحسم سيتمّ خلال ساعات فقط، بينما خرج قادة «الدعم» وهم يتوعّدون بالقبض على قائد القوات المسلّحة وإعدامه، في تحدّ واضح للجهود المبذولة من قِبَل أطراف عدّة للوصول إلى هدنة ووقف مؤقت لإطلاق النار، ليأتي الإعلان عن الهدن في كلّ مرّة، محمَّلاً بأسباب فشلها. لا بل إن كلّ طرف بات يَنظر إلى الهدنة باعتبارها معطّلاً لتقدُّمه في المعركة، كونها تمنح الطرف الآخر فرصة لتجميع قواته، وهو ما صعّب تالياً مهمّة الوصول إلى وقف دائم لإطلاق النار، ورفَع حدّة المعارك ووتيرتها يوماً بعد آخر.
وممّا أسهم أيضاً في فشل الهدن، الحملات الإعلامية المساندة للقوات المسلّحة خصوصاً، والتي نجحت من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الإعلامية المختلفة في تكوين رأي عام مؤثّر يدعو الجيش صراحة إلى عدم قبول أيّ هدنة وفق أيّ شروط، ومواصلة القتال حتى تحقيق النصر. وعلى الجانب الآخر، واصلت «الدعم» تمدُّدها في مناطق الخرطوم، ومحاولاتها المتكرّرة للاستيلاء على مقارّ الجيش من خلال قصفها ومحاولة اقتحامها، ما زاد من حدّة الاشتباكات داخل الأحياء، وجعل الطرفَين يتقاسمان خرق أيّ هدنة معلنة.
توحي التطورات الميدانية بأن الجيش بدأ عملية شاملة للقضاء على قوات «الدعم السريع» وإخراجها من الخرطوم


ومع قرب دخول الحرب شهرها الثالث، ازدادت حدّة القتال في مختلف أنحاء العاصمة. فبعد لحظات قليلة من انتهاء هدنة الـ24 ساعة الأخيرة، حرّك الجيش آلياته الثقيلة وبدأ بتمشيط كلّ أحياء مدن الخرطوم الثلاث التي تنتشر فيها قوات «الدعم السريع» بشكلٍ كبير، فيما شهدت بعض الأحياء التي ظلّت بعيدة عن محيط الاشتباكات في الفترة الماضية، قتالاً ضارياً منذ فجر الأحد الماضي، مثل منطقة الحاج يوسف القريبة من أبرز مناطق تمركز «الدعم» في شرق النيل. كذلك، امتدّ القتال إلى ضاحية الكلاكلة جنوب الخرطوم، والقريبة من مجمع التصنيع الحربي ومستودعات البترول، كما تعرّضت بعض قرى شمال بحري لقصف عنيف بالطيران، وهو ما أوحى بأن الجيش بدأ زحفاً متزامناً في كل الأحياء، بهدف القضاء على «الدعم السريع» وإخراجها من العاصمة.
وبحسب مصدر عسكري تحدث إلى «الأخبار»، فإن الجيش استخدم في معاركه الأخيرة المدفعية الصاروخية، وهي معروفة بدقّتها العالية، كما شاركت قوات المشاة في المعارك، وإنْ على نطاق ضيّق. وأبدى المصدر استغرابه لعدم حسم الجيش المعركة حتى الآن، على رغم ما يتوفّر لديه من عتاد، قائلاً إن هناك غموضاً في إدارة وسير هذه الحرب. لكنه عاد وفسّر ذلك باحتمالية وجود مباحثات غير معلنة بين الطرفين من خلال منبر آخر غير منبر جدة.
في خضمّ ذلك، نقل شهود عيان أن الوضع على الأرض لم يتغيّر، حيث يتواصل الانتشار الكثيف لقوات «الدعم السريع» في معظم شوارع وأحياء الخرطوم على رغم القصف المتواصل، ما رسّخ قناعة لدى كثيرين بأن أمد الحرب سيكون طويلاً ومفتوحاً على كلّ الاحتمالات. وتتشكّل، على الجانب الآخر، قناعة مفادها بأن الطريق الوحيد لإيقاف هذه الحرب هو التفاوض والوصول إلى اتفاق يضع حداً للقتال، ويبدأ معه بناء واقع سياسي جديد، يكون فيه للعسكريين حضور كبير، وكأنّ هذا الدمار الشامل لعاصمة البلاد هو الثمن لإثبات أهمية وجود المؤسسة العسكرية في العملية السياسية، على عكس ما ظلّ قادتها يكرّرونه من أنهم سيعودون إلى ثكناتهم استجابة لرغبة المدنيين.