يعود فلسطينيّو الـ 48 إلى واجهة المشهد في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، لا بسبب صمودهم المتواصل في «طنجرة الضغط» الإسرائيلية التي يُطهَونَ فيها منذ النكبة، بل هذه المرّة على خلفيّة وجه آخر بدأ يتكشّف بسرعة من أوجه جهنّم التي يحيون فيها، وهو الجرائم التي بلغ عدد ضحاياها 105 قتلى في ستّة أشهر، وتَمثّل آخر فصولها في واقعة إطلاق نار حصدت أرواح خمسة شبانٍ دفعة واحدة في يافة الناصرة في الجليل الأسفل. وبالنظر إلى أن فلسطينيّي الداخل ليسوا سوى مليون ونصف مليون نسَمة، يشكّلون حوالي 20% من عدد سكّان الكيان، فإن معدّل الجريمة هذا قد يكون الأعلى على مستوى العالم كلّه، متجاوزاً حتى أرقام المافيات الإيطالية والروسية والأميركية والكولومبية. وفيما تبلغ نسبة الجرائم في صفوف الفلسطينيين ثلاثة أضعافها لدى اليهود، فإن الشرطة الإسرائيلية لم تَحلّ منذ بداية العام الحالي إلّا ألغاز 5% منها، في مقابل تفكيكها السواد الأعظم من ألغاز الجرائم المرتكبة في المجتمع اليهودي، طبقاً لتقرير سابق لصحيفة «هآرتس».هكذا، تعيش العائلات الفلسطينية في الداخل، منذ أكثر من عقدَين، تحت رحمة عائلات الجريمة المنظّمة، فيما تكتفي الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بتعداد الضحايا، منتشيةً، في باطنها، بانزياح المزيد من الجماجم المكوّمة عن قمّة «الجبل الديموغرافي» الجاثم فوقها. وفي ظلّ هذا الوضع، لم تَعُد مطالب الفلسطينيّين تتجاوز حدود ما نادى به بعض المحتجّين على بعد مئات الأمتار من الجريمة المرتكَبة أخيراً: «بدنا نعيش» - وهو ما يروق تماماً إسرائيل التي تدأب منذ عقود على تهشيم القضية الوطنية المتمثّلة في التخلّص من الاحتلال -، بينما كانت المدينة تشهد إضراباً دعت إليه «لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في الداخل» لم تلتزم به معظم المحالّ التجارية. وإذ تحرص دولة الاحتلال على إقناع العالم بأنها توفّر لفلسطينيّي الـ 48 مستوى معيشة يُقارَن بالدول الأوروبية، فإن آلة الموت المتعدّد الأوجه الذي حصد منذ العام 2000، آلاف الضحايا والمصابين، تكفي وحدها لدحض تلك الادّعاءات.
والواقع أن ذلك ليس مستغرَباً؛ فقد كان رئيس «الشاباك» السابق، آفي دختر، قد هدّد الفلسطينيين، بعد أيامٍ قليلة من اندلاع الانتفاضة الثانية، بالقول: «ستدفعون الثمن غالياً. ما شأنكم وشأن الضفة والأقصى؟ سيأتي عليكم يومٌ تكونون فيه عالقين بينكم وبين أنفسكم». قال دختر قوله المتقدّم، بينما كان يتسلّى بقضم المكسرات في خلال اجتماع حضره رئيس الوزراء آنذاك، إيهود باراك، وشارك فيه ودوّن محضره المدير السابق لـ«لجنة المتابعة»، عبد عنبتاوي، للبحث في الاحتجاجات التي عمّت المناطق المحتلّة حينها، وسقط فيها 13 شهيداً من فلسطينيّي الداخل، إضافة إلى آلاف الجرحى. وبعد سنوات قليلة من تهديد رئيس «الشاباك»، يتّضح أن شرطة إسرائيل أجهزت تقريباً على منظّمات الجريمة في المجتمع اليهودي، فيما الفلسطينيون تحوّلت مدنهم وبلداتهم إلى وُجهة لمَن كانوا «جنوداً» في تلك المنظّمات، لينشئوا فيها بنية تحتية لإدارة الجريمة. وفي غضون أعوام معدودة، تحوّلوا إلى منظّمات مافيوية تسيطر على سوق العُملة السوداء (أكثر من 20% من مراكز الصيرفة في إسرائيل)، وسوق الخرضوات المعدنية، وتجارة الأسلحة والمخدرات، وتدير جرائم الحماية والإتاوة والخاوة وجباية الديون وغيرها، حتى باتت «دولة في قلب دولة»، على رغم كون هذه الأخيرة قادرة بأجهزتها الأمنية على تنفيذ «أخطر العمليات الخاصة».
انتهجت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة سياسات قادت إلى تجهيل الفلسطينيين وإفقارهم ومحاصرتهم


على أن ذلك الواقع لم ينشأ بين ليلة وضحاها؛ فبموازاة تنمية منظّمات الجريمة، وإنشاء شبكة علاقات بينها وبين «الشاباك» والشرطة وفق ما اعترف به سابقاً ضباط في الجهازَين، انتهجت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة سياسات قادت إلى تجهيل الفلسطينيين وإفقارهم ومحاصرتهم، وجعل النسبة الغالبة منهم إمّا عاطلين عن العمل وقابعين تحت خطّ الفقر، أو ملقين على هامش المجتمع بلا أطر تعليمية أو ثقافية أو وطنية أو حتى حزبية. وعلى هذا النحو، تحوّلت الجريمة إلى ما يشبه «الوظيفة الأسهل» بالنسبة إلى آلاف الشبّان الفلسطينيين في الداخل؛ فهي لا تتطلّب شهادة ولا دراسة أكاديمية، بل فقط تدريباً على السلاح في أحد الأحراج (التي تَعرف إسرائيل ومنظّمات حماية البيئة فيها هويّة قاطفي الزعتر حتّى)، ومعرفة بقيادة دراجة نارية أو سيارة للوصول إلى الهدف وإطلاق النار عليه، مقابل راتب مغرٍ يتفاوت طبعاً بحسب قيمة «الرأس» المستهدَف. كما أن السياسات الاقتصادية التي تنتهجها دولة الاحتلال، والشروط التي تضعها مصارفها لمنح القروض، مثّلت سبباً مباشراً للجوء عشرات آلاف الفلسطينيين إلى الاقتراض من السوق السوداء بفائدة تصاعدية رهيبة يعجز المستدينون عن تسديدها، وهو ما يكون في النهاية سبباً لقتلهم على أيدي الدائنين، أو قتل أحد أفراد عائلاتهم، ومن ثمّ ملاحقة ذويهم حتى «تقشيطهم» آخر فلس أو ملك يحوزونه.
بعد كلّ ذلك، لا يجد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي كان قد تفاخر بـ«وصول قواته الخاصة إلى قلب طهران وسرقة الأرشيف النووي الإيراني»، في مواجهة ظاهرة الجريمة التي تصاعدت في عهود حكوماته المتتالية ولم يتمكّن هو من إيجاد أيّ حلّ لها سوى تكليف جهاز «الشاباك» بالتصدّي لها، بينما الأخير لا يملك مسوّغات قانونية تخوّله العمل في الحيّز المدني، ويخشى على «قدراته التكنولوجية الفائقة» من التسرّب إلى أجهزة أخرى والاطّلاع عليها. ويأتي هذا بعدما أقرّت الشرطة بفقدانها السيطرة على الفلسطينيين الذين يملكون صواريخ «لاو» مضادّة للدروع (قبل حوالي سنتين، وضعت إحدى منّظمات الجريمة صاروخاً من النوع المذكور على بوّابة بلدية مدينة طمرة كتهديد للفوز في المنافسة على إحدى المناقصات)، مصدرها كما أكد وزير الأمن الداخلي الأسبق، جلعاد إردان، القواعد العسكرية الإسرائيلية لـ«الجيش الذي لا يُقهر»، فيما الجيش نفسه، وفق إردان، مصدرٌ لـ 90% من الأسلحة المنتشرة في أيدي الفلسطينيين، وعددها أكثر من 400 ألف قطعة سلاح.
وإذا دلّ إحلال «الشاباك» محلّ الشرطة على شيء، فإنّما على كون هذه الأخيرة جهازاً احتلالياً مهمّته حماية اليهود وتأمينهم حصراً، وهو ما يؤكّده تمكّنها من محاصرة الجريمة في المجتمع اليهودي، وتقليص أعداد الضحايا بشكل كبير. وفي محاولة لتبرير هذا الواقع، ادّعت رئيسة وحدة العمليات في الشرطة، سيجال بار - تسفي، خلال مشاركتها في «مؤتمر هرتسليا» الذي عُقد الشهر الماضي، أن الشرطة في أزمة، ولا تملك الأدوات ولا الخطط الجدّية لمواجهة الجريمة في الداخل، قائلةً: «نحن في ورطة. علينا إعلان حالة طوارئ قومية بسبب عدد جرائم القتل في صفوف العرب. لم نَعُد شرطة قويّة. والسبب الرئيس لذلك هو النقص في عدد العناصر الشرطيّة»، والذي، للمفارقة، يتوارى الحديث عنه حين تقع جريمة قتل في المجتمع اليهودي. أمّا القائد العام لجهاز الشرطة، يعكوف شبتاي، فقد فضحه زميله، وزير «الأمن القومي» إيتمار بن غفير، الذي سرّب محادثة هاتفية بينهما، قال فيها الأوّل إن «هذه طبيعة العرب، لا يمكن فعل شيء حيال الجريمة، دعهم يقتلون بعضهم بعضاً»، بينما كان شبتاي وجهازه على أتمّ الجهوزيّة بعد هَبّة أيار 2021 لاقتحام بيوت الفلسطينيين، ومصادرة الأسلحة الفردية وكلّ ما استُخدم في الاحتجاجات التي عمّت المدن والبلدات الفلسطينية في حينه.
كلّ هذا في كفّة، واستغلال إسرائيل الجريمة الجنائية غطاءً لتنفيذ اغتيالات سياسية لشخصيات فاعلة وطنياً في كفّة ثانية. ذلك ما حدث أكثر من مرّة في أمّ الفحم ويافا، وأخيراً في اللد نهاية نيسان الماضي، عندما قُتل الناشط الفلسطيني، حمزة أبو غانم، في جريمة صُوّرت على أنها جنائية، فيما المؤشّرات اللاحقة أظهرت طابعاً مختلفاً لها. إذ تَبيّن أن محرّر جريدة وموقع «كول يهودي» (الصوت اليهودي)، إلحنان غرونر، أحد أتباع بن غفير، كان قد نشر صورة تجمع أبو غانم بمحمد أبو الطاهر جبارين، رئيس «الحراك الفحماوي» الفاعل وطنياً، على صفحته في موقع «تويتر»، راسماً حول رأسيهما دائرتَين حمراوَين، مذيّلاً الصورة بـ«لقد تمّت تصفية حمزة»، في تهديد مبطّن لجبارين بأن «يتحسّس رأسه هو الآخر»؛ إذ قد تأتيه «جريمة قتل» لا يعرف سببها.