وبينما كان الفلسطينيون يتابعون مجريات المواجهة في بلاطة، تواردت الأنباء من مدينة جنين عن عملية إطلاق نار عند معبر الريحان بالقرب من بلدة يعبد. وفي التفاصيل، تعرّض مستوطن داخل مركبته لإطلاق نار من مركبة مسرعة يستقلّها مقاومون بمحاذاة المعبر المذكور، ما أدّى إلى إصابته بجروح. وعلى إثر ذلك، سُجّلت عملية مماثلة من قِبَل المقاومين أنفسهم ضدّ البرج العسكري قرب يعبد، أسفرت عن إصابة 4 جنود إسرائيليين، فيما تمكّن منفّذوها من الانسحاب، وإحراق المركبة التي كانوا يقودونها، والتي تَبيّن أنه جرى الاستيلاء عليها قبل أسبوعين. وعمد جيش الاحتلال، عقب تلك التطوّرات، إلى نصب حواجز على الطرق المؤدّية إلى يعبد وفرض حصار على الأخيرة، في حين اندلعت مواجهات مع قوات الاحتلال التي اقتحمت البلدة.
وبين الفشل الاستخباراتي المتراكم في مخيم بلاطة، ومثله في مخيّمَي جنين ونور شمس في الاشهر الأخيرة، والمتمثّل في كشف معظم عمليات الوحدات الخاصة والاشتباك مع منفّذيها، وبين استمرار عمليات المقاومة وإطلاق النار واستهداف المستوطنين في أنحاء الضفة، تتكبّد قوّة الردع الإسرائيلية مزيداً من الخسائر، فيما تتزايد الأصوات الداعية إلى شنّ عملية واسعة في الضفة. وتجلّي عملية يعبد الأخيرة مكامن الخطر التي تتلمّسها دولة الاحتلال؛ إذ لم يكتفِ المقاومون بإطلاق النار على المستوطن، بل استكملوها باستهداف جنود الاحتلال، ومن ثمّ الاشتباك معهم عند اقتحامهم للبلدة. وإذا ما أضيفت إلى ما تَقدّم، التقديرات الأمنية الإسرائيلية التي تقول إن المجموعة المنفّذة، هي الخلية نفسها التي قتلت المستوطن مئير تماري قبل نحو أسبوعين عند مستوطنة «حرميش»، فهذا يعني أن المقاومين بعد عمليتهم الأولى لم يتواروا عن الأنظار، بل صعّدوا من عملياتهم.
تقف سلطات الاحتلال حائرة أمام اختلاف الآراء حول شنّ عملية عسكرية واسعة في الضفة
إزاء ذلك، يزداد سُعار المستوطنين في المطالبة بشنّ عدوان واسع على شمال الضفة، بالتزامن مع عودتهم إلى المستوطنات المخلاة هناك. وشنّ رئيس «مجلس السامرة»، يوسي دغان، هجوماً غير مسبوق على حكومة الاحتلال عقب عملية يعبد، قائلاً: «هذا الحادث الخطير، والذي أسفر عن سقوط عدد كبير من الجرحى، يقع عند تقاطع مجاور للتقاطع الذي اغتيل فيه مئير تماري قبل نحو أسبوعين. نحن نتسوّل منذ سنوات، وبالتأكيد بعد الهجوم، لإغلاق حاجز حرمش، وإغلاق حاجز مافو دوتان. كلّ من اتّخذ القرار المؤسف بإعادة فتح الحاجز عند مدخل حرمش بعد انتهاء أيام الحداد السبعة تخلّى عن حياة سكّاننا. أطالب هذه الحكومة بأن تعطينا إجابات: لماذا تتخلّون عنا، نحن سكّان السامرة؟». ويأتي ذلك فيما تُواصل قوات الاحتلال، منذ عصر الثلاثاء، محاصرة بلدة يعبد وإغلاق جميع المداخل المؤدّية إليها، إضافة إلى إغلاق حاجزَي برطعة و«دوتان» العسكريَين، وسط اقتحامات مستمرّة تتخلّلها مداهمة لمنازل ومحالّ تجارية، واعتقالات وعمليات استيلاء على كاميرات مراقبة.
وعلى رغم استمرار تلك العمليات وتوسّع رقعتها، إلّا أن المنظومة الأمنية في إسرائيل توصّلت، بحسب «هيئة البثّ»، إلى نتيجة مفادها بأن النشاطات الهجومية في شمال الضفة لم تحقّق النتائج المرجوّة، وهو ما يدلّ عليه تزايد عدد الإنذارات والهجمات. وبالتالي، فإن الاستنتاج الذي اتّفق عليه كلّ من جيش الاحتلال و«الشاباك» هو أن إسرائيل «بحاجة إلى تصعيد العمليات الهجومية ضدّ العناصر المسلّحة في منطقتَي جنين ونابلس»، وأن «العملية العسكرية الموسّعة قد تكون أيضاً على جدول الأعمال». ولذا، من المتوقّع أن تشتدّ وتيرة عمليات الاحتلال في الأيام المقبلة في شمال الضفة (جنين ونابلس وطولكرم)، وتحديداً البلدة القديمة في نابلس، ومخيمات بلاطة، وجنين، ونور شمس، إضافة إلى مواقع أخرى دائماً ما تُخرج مفاجآت مثل يعبد وحوارة. ويجيء هذا فيما يتنامى ظهور التشكيلات والمجموعات الفدائية في شمال الضفة، والتي لم تَعُد تقتصر على الكتائب كما «كتيبة جنين» و«كتيبة بلاطة» ومجموعة «عرين الأسود»، بل بدأت تَظهر خلايا صغيرة في القرى والبلدات لديها القدرة على تنفيذ عمليات نوعية. وبدا لافتاً، أوّل من أمس، ظهور اسم «عرين الأسود» مجدّداً بعد غياب طويل، وذلك عبر بيان أكدت فيه أن «مقاتليها تصدّوا للعدوان إلى جانب الكتائب في مخيم بلاطة وجميع فصائل المقاومة»، داعيةً الفلسطينيين إلى أن «يتجهّزوا بكلّ شيء لمعركة قريبة يعدّ لها العدو في شمال الضفة»، مخاطبةً إيّاهم بالقول: «كونوا على ثقة بالعرين الذي لن يخذلكم، فلا مجال للتراجع ولا مجال للاستسلام ولا مجال لأيّ مناورة والرجوع إلى الوراء خطوة واحدة».
وفي ظلّ هذا الواقع، تقف سلطات الاحتلال حائرة أمام اختلاف الآراء حول شنّ عملية عسكرية واسعة في الضفة، خصوصاً في ظلّ تنامي قدرات المقاومة هناك، وما يمكن أن يجرّه أيّ تصعيد من تبعات لن يُستثنى منها قطاع غزة الذي تسعى إسرائيل إلى تحييده، سواءً من خلال العمليات العسكرية، أو الاجتماعات السياسية في شرم الشيخ والعقبة. مع ذلك، قد ينهي الاحتلال تردّده إذا ما جرى تنفيذ عمليات فدائية أوقعت خسائر كبيرة في صفوف الجنود والمستوطنين، أو ظهرت إمكانات عسكرية نوعية لدى المقاومين، وإنْ كان الخيار الأفضل بالنسبة إليه هو تجزئة الساحات والمحافظات والتعامل مع كلّ واحدة على حدة. ولا يحجب هذا الانشغال بساحة الضفة، الاهتمام المتضاعف بجبهتَي لبنان وإيران، واللتَين تهيمن سيناريوات المواجهة معهما على التفكير الإسرائيلي في الآونة الأخيرة. وبحسب آخر السيناريوات، فقد توقّعت المنظومة الأمنية سقوط عشرات القتلى من المستوطنين، وتدمير مئات المواقع، عقب هجوم تشنّه إسرائيل على إيران؛ إذ ستُطلَق آلاف الصواريخ في اتّجاه فلسطين المحتلة من إيران والعراق وسوريا ولبنان وقطاع غزة، وخصوصاً نحو «المناطق الشمالية، ومن ضمنها حيفا». ويتوقّع السيناريو، الذي نشره موقع «واللا»، «مقتل نحو مئة، وإصابة نحو ألف، وتدمير أكثر من ألف موقع 500 منها ستكون في حالة صعبة، إضافة إلى أضرار في البنية التحتية للكهرباء والمياه، والقواعد العسكرية، والمراكز السكانية». وفي ما يتعلّق بلبنان تحديداً، فقد تمّ التدرب على التعامل مع إطلاق نحو 3 آلاف صاروخ من هناك في الأيام القليلة الأولى من معركة محتملة، سيصاحبها «إجلاء جماعيّ للمستوطنين من الشمال إلى الجنوب».