ما تقدم هو ما يفسّر الحماسة السعودية، التي فاجأت كثيرين، لتعزيز العلاقات مع طهران. ويبيّن التدقيق في القرار السعودي بإطلاق ما يمكن وصفه بعملية «غزو استثماري» نحو إيران، أنه ناجم عن مصلحة سعودية خالصة، سياسية واقتصادية (بمعنى تحقيق عوائد مادية على الاستثمارات نفسها). فلا يمكن للرياض نفسها أن تكون مركز أعمال ومال إقليمياً عالمياً كما تقضي «رؤية 2030»، ما لم تكن إيران مزدهرة هي الأخرى، وهذا يتطلّب ترتيبات أمنية تشمل الخليج كله، بحيث لا تعود الضفة الأخرى منه تمثل تهديداً لأمن إيران، عبر القوات الأميركية أو من خلال إقامة تحالفات أمنية وعسكرية مع إسرائيل. والاقتصاد الإيراني المكبّل بعشرات السنوات من الحصار، يوفر فرصاً استثمارية مجزية، والرياض مؤهلة للاستفادة منها، بسبب امتلاكها احتياطات مالية ضخمة أمكن لها مراكمتها خلال السنوات الماضية بفضل ارتفاع أسعار النفط. والكلام حول هذه الاحتمالات يسابق التقارب السياسي، إذ دخل في تفاصيل من مثل ما تحدّث عنه أحد المسؤولين الإيرانيين من أن اتفاقاً لاستيراد الطائرات التجارية عبر المملكة، يجري وضع اللمسات الأخيرة عليه.
لا يمكن للرياض أن تكون مركزَ أعمال ومال إقليمياً عالمياً كما تقضي «رؤية 2030»، ما لم تكن إيران مزدهرة هي الأخرى
لكن ذلك كله لا يفك تماماً الطلاسم حول ما يمكن للولايات المتحدة أن تذهب إليه رداً على ما يجري. فمن المبالغة الاعتقاد بأن أميركا أُسقط في يدها، وفقدت تأثيرها على مجريات الأحداث في منطقة ظلّت تهيمن عليها بشكل أحادي لعشرات السنوات، حتى في عزّ الحرب الباردة قبل انهيار الاتحاد السوفياتي. وهنا يمكن طرح أسئلة عن الإمكانات المتوفّرة لدى السعودية لتحدّي العقوبات الأميركية المفروضة على طهران، وضخ استثمارات كبيرة فيها، على رغم أن المملكة أظهرت في الأشهر الماضية أنها تملك هامشاً أكبر من غيرها في هذا المجال بسبب حاجة العالم إليها لتحقيق قدر من التوازن في أسواق الطاقة. فقد تكرّر أن هددت واشنطن بفرض عقوبات على الرياض خلال السنوات القليلة الماضية، وعجزت عن الفعل. أكثر ما يمكن أن تراهن عليه الرياض التي تعرف تماماً كيف يجري اتخاذ القرارات في واشنطن، هو فترة السنة ونصف السنة المتبقّية من ولاية الرئيس الأميركي، جو بايدن. ففضلاً عن أن السياسة الخارجية الأميركية تلقّت ضربات شديدة في هذا العهد، نتيجة خطأ الرهان على توريط روسيا في أوكرانيا (الواقع أن أميركا والغرب هما من تورّطا في هذه الحرب)، فإن بدء الحملة الانتخابية الأميركية يشلّ تلك السياسة تماماً (يلاحَظ التراجع من تهديد السعودية في بداية الولاية، إلى استجدائها الآن).
ما هو أكيد، أن المشروع السعودي لتوسيع النفوذ في الشرق الأوسط، وحتى القيام بدور عالمي، انتقل تحت قيادة ابن سلمان من اتخاذ التوترات والحروب بالوكالة سبيلاً إلى ذلك، إلى الاعتماد على الذراع المالية الطويلة للمملكة والدول التي تدور في فلكها في الخليج، في ضوء مراكمة الثروات. وإذا كان في السابق يجري تدوير البترودولارات ليعاد استثمارها في الغرب، من خلال صيغة العلاقات القديمة، فإن الأسس الجديدة للعمل تحتاج إلى استثمارات في أسواق المنطقة. وهذا ما يحصل من خلال الهجوم الاستثماري السعودي في العراق أيضاً. ومع ذلك، قد لا يكون حلّ الملفات بين السعودية وإيران بالسهولة واليسر اللذين يتوقّعهما كثيرون، لكن ما يحمي هذا المسار هو أن الرياض لا تملك خياراً آخر، إذا ما أراد ابن سلمان المضي في مشاريعه التي يرتكز عليها نظامه. وذلك ثبت بالتجربة القاسية لسنوات التوتر، منذ قطع العلاقات مع إيران عام 2016، وما تخلّلها من تحول اليمن إلى كابوس سعودي، حين صارت الأراضي السعودية كلها مكشوفة أمام القصف اليمني.