لم يكن إدراج الكمين الذي استهدف قوات مدرّعة لجيش الاحتلال بالعبوات الناسفة، وأدّى إلى إعطاب خمس آليات، في سياق «لبننة جنين»، لما أحياه في ذاكرة العدو من أنماط عمل «حزب الله» في جنوب لبنان، إلّا إقراراً إسرائيلياً بالتطوّر الذي تشهده المقاومة في شمال الضفة الغربية، في أساليبها وتكتيكاتها. وخلال الساعات الماضية، كشفت ردود الفعل الميدانية والسياسية والإعلامية في الكيان، وقعَ الصّدمة التي نتجت من تلك العملية المتعدّدة الأبعاد، وأماطت اللثام عن حجم المخاوف التي تراود الأجهزة الإسرائيلية المعنيّة في شأن تطورّ هذا المسار ومآلاته. وكان نجح المقاومون في تحويل عملية توغّل افترضها جيش الاحتلال تقليدية، إلى مفاجأة تَمثّلت في تحقيقهم إنجازاً نوعياً فرض على المنظومة القيادية الإسرائيلية مروحة تحدّيات تتّصل بعناوين استخبارية وعملياتية وسياسية، إذ ستكون المؤسّسة الأمنية معنيّة بالإجابة عن مجموعة أسئلة، بعضها مرتبط بنوعية وحجم المواد المتفجّرة وما إن كان بعضها على الأقلّ محليّ الصنع أم أنه تمّ تهريبه من الخارج، وبعضها الآخر متّصل بكيفية معرفة المقاومين بمسار عبور الآليات وتوقيتها، وما إن كانوا قد زرعوا عدّة عبوات على عدّة مسارات. هكذا، وجدت إسرائيل نفسها أمام ارتقاء في التخطيط والتكتيك والأسلوب، ستكون له تداعياته الميدانية والسياسية. وفي هذا الإطار، أشار موقع «واللا» العبري إلى أن «الجنود دخلوا كميناً في جنين احتوى على عبوة ناسفة قوية جداً: كما (كان يحصل مع) حزب الله في لبنان»، في مقارنة تختزن الكثير من المخاوف ممّا سيؤول إليه الوضع في الضفة. وممّا يصعّب الموقف بالنسبة إلى إسرائيل أيضاً، ويفرض عليها تساؤلات إضافية، هو أن الآلية التي أصيب الجنود فيها، وهي من طراز «فانتر»، هي من الآليات الحديثة المصفّحة، إلّا أن إصابتها أدّت إلى خروجها من الخدمة كلّياً، بعدما «تمّ تدمير الجزء الخلفي منها، وفي اللحظة التي خرج فيها الجنود منها، بدأ إطلاق النار عليهم» - وفق «واللا» -، في تعبير عن كون العملية مركّبة وعلى درجة عالية من الكفاءة. كما ربط الموقع بين العملية وما سبقها من عمليات، وخلص إلى أن ما يجري هو مسار «وليس حالة منفردة»، مذكّراً بأن قوات الجيش لمست «الشهر الماضي ارتفاعاً حادّاً في استخدام العبوات الناسفة ضدّ القوات الإسرائيلية».
بناءً على ما تَقدّم، يبدو واضحاً الأثر الكبير لهذه العملية على تكتيكات العدو الذي سيكون أكثر قلقاً وحذراً في أيّ عملية توغل لاحقة، على رغم إعلان وزير الأمن الإسرائيلي، يوآف غالانت، أن إسرائيل «ستُواصل اتّباع أسلوب هجومي ومبادَر إليه»، في ما يمثّل محاولة لتبديد أيّ تقديرات بأن هذه الضربة قد تؤثّر على القرار العملياتي. وبينما تحاول إسرائيل منع تشكّل معادلة تتحوّل بموجبها جنين ومعها شمال الضفة إلى ملاذ آمن للمقاومين، فإن أهمّ تداعيات الكمين الفورية، هو أنه أطاح شعور التفوّق لدى قادة الاحتلال إزاء الساحة الفلسطينية، لما أظهره من حصانة أمنية مكّنت المقاومين من إخفاء التخطيط والتكتيك حتّى نجاح التنفيذ. ويؤشّر ذلك، بالنسبة إلى قادة جيش العدو، إلى مزيد من المفاجآت التي قد يكون بعضها أكثر بأساً. كما أن هذه العملية عكست حجم التصميم والمبادرة الكبيرَين لدى خلايا المقاومة، وشكّلت عيّنة ممّا قد يواجهه جيش الاحتلال في حال تبنّيه خيار تنفيذ اجتياح واسع في شمال الضفة.
وجدت إسرائيل نفسها أمام ارتقاء في التخطيط والتكتيك والأسلوب، ستكون له تداعياته الميدانية والسياسية


في الصورة الأوسع، فإن أهمّ ما يميّز هذه العملية، هو أنها تمّت في الضفة الغربية، حيث مخاطرها ونتائجها أشدّ وطأة على العدو انطلاقاً مما تتمتّع به تلك المنطقة من مزايا تجعلها حسّاسة جداً بالنسبة إلى العمق الاستراتيجي للكيان. وبذلك، تتكامل الضفة مع غزة في أكثر من عنوان؛ فهي ساحة واسعة نسبياً للعمليات، وتتاخم ما تبقّى من منطقة فلسطين في الشمال والوسط والجنوب إلى حدّ ما، ما يُمكّنها من استهداف كلّ من المناطق المذكورة بقدرات وجهد أقلّ ممّا يتطلّبه العمل في غزة. أيضاً، يشكّل التواجد السكاني في الضفة عمقاً بشرياً واستراتيجياً للمقاومة، يضاف إلى «الميزة» التي توفّرها حالة التماس الدائم مع المستوطنين وجنود الاحتلال. ومن هنا، فإن أخطر السيناريوات التي تقلق مؤسّسات العدو، هو أن تواجد صواريخ في الضفة، حتى لو كانت بدائية، كافٍ لشلّ كبرى المدن الإسرائيلية في الوسط، هذا فضلاً عن أن نجاح أيّ مقاوم في عبور الإجراءات الإسرائيلية يُمكّنه من الضرب في العمق، كما حصل مرّات متعدّدة بالفعل.
تبقى حقيقة ينبغي تأكيدها كونها تشكّل إطاراً تفسيرياً للكثير من المواقف وردود الفعل الإسرائيلية التي قد يفهمها البعض على أنها نوع من المبالغة من جانب الاحتلال، مغفلاً عمق المقاربة الإسرائيلية لهذا النوع من الأحداث، إذ إنه في حال تحوَّلت هذه العملية إلى مسار وظاهرة، فستكون لها تداعيات استراتيجية على الأمن القومي الإسرائيلي؛ ولذا تجد القيادة الإسرائيلية نفسها ملزمة بالتعامل مع الكثير من الأحداث بعيون المستقبل. ومن هنا، يُفهَم تحذير قيادة المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال، من أن تكون «قواعد اللعبة قد تغيّرت»، بعد أن أقرّت بعنصر المفاجأة الذي انطوت عليه العملية، وكشفت عن بعض ما ترتّب عليها بالقول: «نحن في صدمة. هذا (حدث) متطرّف بالنسبة إلى هذه الساحة».