انتشر فيديو، أخيراً، من المعارك الجارية في أوكرانيا بين القوات الروسية والمزيج الهجين الذي يقابلها من أوكرانيين وخبراء «ناتويين» ونازيين متطوّعين من كل أصقاع الغرب. في هذا الفيديو، تَظهر سيارة «لادا» كلاسيكية تعلوها قاذفة صواريخ مضادّة للدروع، وهي تتوقّف في أحد الحقول الأوكرانية لتصطاد إحدى المدرّعات الحديثة التي زوّدت الدول المعادية لروسيا أوكرانيا بها لتموت في داخلها القرابين الأوكرانية فداءً للهيمنة الغربية. لا فرق إذا كانت المدرّعة من طراز «برادلي» أو «ليوبارد» أو «أبرامز»، لكن الصورة أظهرت أنه يمكن أن تهزم من قِبل سيارة «لادا» إذا صحّ استخدام الأخيرة في أرض المعركة، والكلمة المفتاح هنا هي «أرض المعركة». هذه المشاهد لا تفاجئ من عايش حرب تموز عام 2006، فكم من «لادا»، لا بل كم من مترجِّل قلَبَ أرض المعركة إلى مقبرةٍ لمدرّعات جيش إسرائيل و«ميركافاته»!. طبعاً، التفوّق التكنولوجي والمادّي يعطي الجيوش أفضلية في الحروب، وخصوصاً إن كان هائلاً، كمّاً ونوعاً. وهذا التفوّق يعطي الجيش قدرة أكبر أو أسهل على القتل، لكنه لا يكفي لحسم حرب. هناك عوامل أخرى كثيرة تؤثّر على مجريات الحروب، أهمّها أرض المعركة وأهلها. قيل ذات يومٍ في بيروت: «لبنان ليس أوكرانيا»، وكان القائل يقصد أن الخريطة السياسية في لبنان لا تشبه تلك الأوكرانية، وأنه غير قابل للتطويع من قوى الهيمنة الغربية. لكن القول ينطبق أيضاً على الخريطة الطوبوغرافية للبلدين: أوكرانيا عبارة عن سهل كبير على ضفاف نهر الدنيبر وروافده، تَبلغ مساحته قرابة الثلاثمائة ضعف مساحة سهل البقاع. ذلك يجعل أرض المعركة هناك مطحنة لجيوش جرّارة، فيما ينتصر في الحرب من يبقى ليخبّر عنها، فلا وادي الحجير ولا مارون الراس على امتداد الجغرافيا الأوكرانية.
لكن الحدث ليس في أوكرانيا ولا في لبنان، بل في جنين، فلسطين. التفوّق التكنولوجي الحربي الهائل للاحتلال (والتنسيق الأمني اللعين) يسمح له بالتوغّل في شوارع مدن الضفة الغربية حين يشاء ليقتل ويخطف ويُرعب ويُرهب ويمارس كافة الانتهاكات والجرائم التي دأب عليها منذ نشأة الكيان الإسرائيلي. لكن رغم مرور عقود طويلة من التفوّق العسكري لم تحسم الأمور على أرض المعركة، إذ ما زال أهل الأرض يقاومون بما تَوّفر لهم. في ماضٍ ليس ببعيد، لم يكن متوفّراً إلّا الحجر، فكان الحجر السلاح. لكن في الأمس، لم تكن الحجارة هي التي أوقفت زحف مدرّعات المحتلّ إلى داخل مخيّم جنين: عبوةٌ ناسفةٌ، أو جهاز متفجّر مرتجل كما يسمّونها بالإنكليزية، شلّت مسيرَ رتلٍ من المدرّعات الإسرائيلية وتركت مصيرَ ركابه القَتَلَة في المجهول. ساعات من الإرباك تلت الحادثة انتهت بانسحاب المحتلّ من «أرض المعركة»، وسحب خردته التي دخلت المخيّم آليات متفوّقة تكنولوجياً وخرجت جثثاً فولاذية مسحولة. كانت هذه عبوة ناسفة واحدة، ومن يرتجل عبوة يرتجل عبوات.
يتحدّثون في إسرائيل عن «لبننة» الضفة، وذلك لأنهم في حالة نكران أن جنين لن تكون أوّل أرض فلسطينية محرّرة وعصيّة على الاحتلال. لكن لا مانع لدينا من أن نذكّرهم بأنه ليس في غزة فلسطين عبوات ناسفة فحسب، بل صواريخ من كل الأحجام.