رام الله | لا تزال كمائن العبوات الناسفة، التي أعطبت آليات الاحتلال في مخيم جنين أول من أمس، يتردّد صوت انفجاراتها المدوّية في تل أبيب ومقارّ المستويات السياسية والأمنية، بينما لم يبدّد الوقت النشوة التي بدت على الفلسطينيين وهم يشاهدون جيش العدوّ يجرّ أذيال الخيبة وأرتال آلياته المعطوبة وقبْلها جنوده المصابين. ووضعت العبوات الناسفة التي أخرجت مفخرة القوات البرية الإسرائيلية عن الخدمة، قادة الاحتلال أمام أسئلة صعبة حول كيفية التعامل مع تنامي قوة المقاومة في شمال الضفة الغربية، وتحديداً في مخيم جنين، ولا سيما في ظلّ تعالي دعوات اليمين المتطرّف إلى شنّ عملية واسعة هناك، على عكس توجّهات المؤسسة الأمنية. وما إن انسحب جيش الاحتلال من مخيم جنين عصر الاثنين تحت أعين الكاميرات، حتى ساد التوتّر صفوف جنوده الذين أطلقوا الرصاص الحيّ بشكل مجنون على شابَّين قرب بلدة يعبد في محافظة جنين، ما أدّى إلى إصابتهما بجروح خطيرة، وأيضاً على 3 شبّان في حوسان قرب بيت لحم متسبّبين بإصابتهم بجروح خطيرة للغاية، ليرتقي أحدهم، لاحقاً، شهيداً، وهو الشاب أشرف زعول. كذلك، أُعلن، صباح الثلاثاء، استشهاد أمجد الجعص من مخيم جنين، متأثّراً بجروح أصيب بها الاثنين، ليرتفع عدد شهداء المجزرة إلى 6، علماً أن نجل الشهيد الجعص، وسيم، كان قد استشهد هو الآخر في كانون الثاني الفائت في مجزرة قضى فيها 10 فلسطينيين. أيضاً، عاد التوتّر إلى المسجد الأقصى الذي اقتحمته ليلاً قوات الاحتلال، واعتدت على المصلّين والمعتكفين فيه، وطردتهم خارجه. في المقابل، استعرضت المقاومة في مخيم جنين بقايا الآليات العسكرية التي خلّفها جيش العدو في المخيم، مؤكدةً أن ما شهده يوم الاثنين إنّما هو جزء يسير من استعداداتها لمواجهة الاحتلال. كما نشرت «سرايا القدس - كتيبة جنين» بعض المشاهد الخاصة لتفجير الآليات، فيما نشرت «كتائب القسام» مقطعاً لعناصرها أثناء تصنيعهم عشرات العبوات الناسفة، وانتشرت مقاطع مصوَّرة للحظة استهداف طائرة «الأباتشي» التي شنّت غارات على المخيم، بالرصاص الكثيف من قِبَل المقاومين، بعدما كان جيش الاحتلال قد اعترف بإصابتها.
وبعد ساعات من المعركة في مخيم جنين، سادت الخشية أوساط الاحتلال الأمنية من التطوّر اللافت في إمكانات المقاومة، وخاصة أن التحقيقات الأوّلية أظهرت أن العبوة التي انفجرت بآلية «النمر» الإسرائيلية هي «عبوة سلكية» جرى تفجيرها عن بعد. ويخشى العدو من احتمال حيازة المقاومين العديد من هذه العبوات، وبالتالي إمكانية زرعها في الشوارع والطرقات الرئيسة، كما يخشى من وقوع عمليات فدائية، سواء فردية أو منظّمة، للردّ على المجزرة التي وقعت في المخيم. وبحسب الإعلام العبري، فإن تطوّر عمليات المقاوِمة «يقّرب إسرائيل من عملية محدودة في نابلس وجنين»؛ إذ ذكرت صحيفة «هآرتس» أن حكومة بنيامين نتنياهو تمارس ضغوطاً شديدة على المؤسسة الأمنية لشنّ عملية عسكرية واسعة في شمال الضفة، مشيرة إلى «ازدياد الضغوط في الأسابيع الأخيرة، على خلفية عدّة عمليات إطلاق نار وقعت في المنطقة، والحملة التي يقودها المستوطنون للمطالبة بتجديد السيطرة على منطقة جنين». وإذ أكدت أن الجيش الإسرائيلي «لا يزال يعارض الشروع في عملية كبيرة»، فقد لفتت إلى أن جهاز «الأمن الإسرائيلي العام» (الشاباك) «يغيّر رأيه بشأن ذلك تدريجياً»، وذلك بسبب التطوّر في مستوى العبوات الناسفة التي يتمّ تصنيعها وتجهيزها في مخيم جنين، وبالقرب منه، والخوف من تمدّد ما وصفته بـ«الفوضى السائدة» في شمال الضفة إلى مناطق أخرى واقعة تحت سيطرة السلطة الفلسطينية.
يُعزى قلق جيش الاحتلال من شنّ عملية واسعة إلى أسباب عدّة، منها عدم إحاطته بإمكانات المقاومة


ويُعزى قلق جيش الاحتلال من شنّ عملية واسعة إلى أسباب عدّة، منها عدم إحاطته بإمكانات المقاومة، التي يمكن أن تفجّر مفاجآت وتكبّد العدو خسائر تعزّز من تآكل قوة ردعه. كما أن الجيش يعتقد بأن عملية واسعة أو احتلال منطقة محددة في الضفة واجتياحها، لن يؤدّيا إلى نتائج إيجابية، «بل سيؤدّيان فقط إلى تفاقم الأزمة، بطريقة قد تكون لها أيضاً عواقب دولية سلبية»، بحسب «هآرتس»، التي تضيف إن اهتمام «الشاباك» ينصبّ على «تحديد مدى تعقيد العبوات الناسفة، والخشية من أن تُستخدم العبوات ذاتها مستقبلاً، ليس فقط في استهداف الجنود، بل أيضاً في استهداف سيارات إسرائيلية في الضفة». ويُضاف إلى ما تَقدّم، قلق إسرائيل المستمر من سيناريو الحرب المتعدّدة الجبهات، والذي حضر طيفه أيضاً في المشهد المتّصل بمعركة جنين، حيث أفادت تقديرات الأجهزة الأمنية بأن هناك تأثيراً من حركة «حماس»، و«تأثيراً إيرانياً على نوعية الإرهاب في الميدان» ينعكس في «التأثير والمعرفة»، وفق «كان 11». وأشارت القناة إلى أن «هذه الاستنتاجات التي توصّلت إليها أجهزة أمن الاحتلال، تنبع بشكل أساسي من الخصائص غير العادية» للعملية، والتي تضمّنت «استخدام عبوة سلكية، ووضعها في موقع استراتيجي، وتفعيلها في وقت وصول» مركبات الاحتلال.
وعلى رغم إقرار الجميع بأن ما شهده مخيم جنين يعدّ تطوراً مهماً في أداء المقاومة، إلّا أن الحذر يظلّ واجباً من محاولات تضخيم حالة المقاومة من قِبل الإعلام العبري، إذ إن الإسرائيليين اعتادوا تلك السياسة حتى تكون مبرّراً لأيّ مجزرة أو عدوان سيأتي لاحقاً، وهذا ما يتّضح في ما نشرته «يديعوت أحرونوت» من تحذيرات من تحوّل منطقة شمال الضفة إلى «غزة ثانية»، إذ قال مراسلها العسكري، يوسي يهوشع، إن «ما يجري ليس مجرّد ارتفاع في وتيرة العمليات شمال الضفة، ولكنه جهود منتظمة تهدف إلى ردع الجيش عن اقتحام المنطقة بهدف زيادة وتيرة التسلّح بما يشبه الواقع في غزة»، لافتاً إلى أن «دخول عبوات شديدة الانفجار على خطّ المواجهة سيحوّل منطقة شمال الضفة إلى ما يشبه مناطق جنوب لبنان في التسعينيات». ونقل يهوشع عن ضابط كبير قوله إن العبوة التي انفجرت بالعربة المصفّحة، وتسبّبت بإصابة 7 جنود، «كانت كبيرة وتمّ زرعها بحرفية»، مضيفاً إن «الصور التي انتشرت من جنين كانت سيّئة جداً لقوة الردع، حيث التقط الفلسطينيون صوراً تذكارية لأنفسهم مع أجزاء من الآلية التي انفجرت العبوة فيها، ومن الواضح جدّاً أن أي فشل من هذا النوع سيزيد من الرغبة في مواصلة هذا الطريق». أمّا إليؤور ليفي من قناة «كان» العبرية، فأوضح أنه «عندما يُقال إن جنين تمرّ بمرحلة وفق نموذج لبنان أو غزة، فإن المقصود بالضبط هو: عبوة جانبية قوية يتمّ تفجيرها في الوقت المناسب، وكاميرات جاهزة للتصوير لبثّ المشاهد في إطار حرب الوعي»، فيما رأت صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية أن «عملية الأمس في جنين هي نموذج ممّا ستكون عليه باقي مناطق الضفة الغربية في ظلّ الفراغ الذي سيحصل بعد أن يغادر محمود عباس المشهد، حيث يكافح الجيش الإسرائيلي حالياً لمعرفة كيفية التعامل مع الوضع الحالي في جنين، بسبب ضعف السلطة الفلسطينية هناك».
على أيّ حال، يبدو أن جيش الاحتلال سيعطي الأولوية لعملياته الاعتيادية في مدن الضفة وبلداتها، في ملاحقة المقاومة وإمكاناتها وعناصرها، على حساب عملية عسكرية مكثّفة ضدّها. لكن ذلك قد لا يستمرّ، وخاصة إذا ما وقعت عملية فدائية قوية أو واقعة أمنية ذات نتائج كبيرة. وعلى رغم تصاعد الأصوات الداعية إلى شنّ عملية واسعة، والتي لحقت بوزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، وعلى رأسها نائبه الذي قال: «نحن بحاجة إلى عملية كبيرة تعيد الهدوء والردع إلى جنين، آمل أن نحقّق ذلك»، ورئيس «مجلس مستوطنات شمال الضفة»، يوسي داغان، الذي رأى أن «ما حدث أمس في جنين يوضح مدى ضرورة شنّ عملية «السور الواقي 2». أقول للجيش: ابدأوا العملية الآن، ولا تنتظروا أن يكون هناك المزيد من الدماء»، إلّا أن جيش الاحتلال الذي تلقّى صفعة مدوّية في جنين، سينتظر على الأرجح التوقيت المناسب لتوجيه ضربة قاسية وغادرة للمقاومة، على غرار التجارب الأخيرة في قطاع غزة.