لعلّ مشهد الأفعى المحاصَرة في الزاوية، يصلح لتوصيف حالة إسرائيل حيال الضفة الغربية المحتلّة؛ فالثانية واقعاً هي المحاصرة بجدار الفصل العنصري الذي يلفّ مدنها وقراها، وبالحواجز الثابتة والمتنقّلة التي قطّعت أوصالها شمالاً وجنوباً ووسطاً، غير أن مواجهة المقاومة المتصاعدة في هذه البقعة، والتي يستخدم الاحتلال ضدّها السلطة الفلسطينية كأداة مقارعة للمقاومين، وجنوده لحماية المستوطنات التي أتت على مساحة أكثر من 60% من أراضي الضفة، استحالت بالنسبة إليه مهمّة سيزيفية شاقّة. مهمّةٌ جلّت معالمها بوضوح معركة مخيم جنين الأخيرة، وما تخلّلها من كمائن بالعبوات الناسفة، وما أعقبها من عملية فدائية كبرى، حصدت أرواح أربعة مستوطنين بينهم مجنّد في كتيبة «نيستح يهودا»، وأصابت آخرين بجروح.بناءً على ما تقدّم، بدأت ماكينة التحليلات الإسرائيلية بالدوران حول الخيارات المتاحة أمام المؤسّسة الإسرائيلية، التي ينقسم أقطابها إزاء الخيار الأقلّ كلفة، فيما يتصاعد تحريض المستوطنين وممثّليهم في الائتلاف الحكومي على بدء عملية عسكرية شاملة في الضفة. وبالرغم من أنه «لا علاقة بين موقع العملية في عيلي وهوية منفّذيها، وبين جنين»، طبقاً للرئيس السابق للجنة الخارجية والأمن في «الكنيست»، والباحث في معهد «أبحاث الأمن القومي» في جامعة تل أبيب، عوفر شيلح، إلّا أنه يُتوقع «أن يعجّل ما (حدث في عيلي) بموعد العملية الكبيرة والواسعة في شمال الضفة». وأشار شيلح، في مقالة في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، إلى أن الدافع من وراء شنّ هكذا عملية، يتمثّل في ضغوط قيادة المستوطنين، وجهاز «الشاباك»، الذي يشهد (بالرغم من عمله الدؤوب لإحباط العمليات) «نشوء بقعة مستباحة أقامت فيها المقاومة ما يُشبه الحكم الذاتي»، فيما تؤشّر عملية «عيلي» إلى أن «الورم يتفشّى أيضاً خارج جنين». مع ذلك، فإن موقف الجيش الإسرائيلي حيال الخيار العسكري «منضبط أكثر إلى الآن»، وهو ما يُعزى إلى تحدّي «التعامل مع النتائج اللاحقة». وفي هذا الإطار، يورد شيلح جملة أسئلة تدور في أذهان قادة الجيش: «ماذا سنفعل بعد الخسائر في الجانبين؟ وهل سنبقى في قلب مخيمات اللاجئين؟ هل ننفذ عمليات عسكرية مشابهة في مدن فلسطينية أخرى، توجد فيها مناطق مستباحة آخذة في التعاظم؟ وإن أقدمنا على ذلك، فهل نخاطر باشتعال الوضع في غزة وربما جبهات أخرى؟». علاوةً على ما تَقدّم، فإن ثمّة مسألة بالغة الأهمية «ينزعج القادة من التعبير عنها علناً»، وهي «الوضع السياسي الداخلي المتأزّم في إسرائيل، والذي يتّخذ فيه ضباط الاحتياط طرفاً بتهديدهم برفض الخدمة العسكرية»، بحسب ما يشير إليه شيلح، متسائلاً: «ما الذي سينتج من عملية عسكرية كهذه على مستوى نسيج جيش الشعب الآخذ في الضعف؟».
وفي وقت تُحجم فيه القيادة الإسرائيلية عن أيّ خطوة سياسية تجاه الفلسطينيين، بحجة «انعدام الشريك»، تبدو الحكومة الحالية معنيّة، بحسب الباحث، بـ«الإجهاز على الحلّ السياسي، من طريق ترسيخ واقع ميداني غير قابل للتبدّل»، وهو ما يفسّر جانباً من تحريضها المستمرّ على البدء بعملية عسكرية شاملة؛ «ليس فقط من أجل اجتثاث الإرهاب»، وإنما بهدف تحقيق «سيناريو الرعب»، كما تصفه القيادة الأمنية الإسرائيلية، والذي يتلخّص بـ«انهيار السلطة الفلسطينية». وبالرغم من أن هذا السيناريو قد يكون كارثياً بالنسبة إلى إسرائيل، «لا يوجد معارضون له، حتى أولئك الذين يتحدّثون عن فكرة إدارة الصراع أو تقليصه، هم ضمنياً يؤيّدون غياب الحلّ السياسي الذي يقود في نهاية الأمر إلى النتيجة ذاتها».
مثّلت عملية «عيلي» فرصة لجردة حساب مع وزير «الأمن القومي» إيتمار بن غفير


من جهته، يعزو المحلّل العسكري لصحيفة «معاريف»، طال ليف رام، الانتقادات الشديدة الموجَّهة إلى الحكومة وأجهزة الأمن حول ما يحدث في الضفة، إلى «تقوّض الشعور بالأمن لدى عدد كبير من المستوطنين إثر تدهور الوضع الأمني، وتصاعد العمليات الفلسطينية المسلّحة»، معتبراً ما حصل في «عيلي» نابعاً من «خيار واعٍ» واعتقاد لدى المقاومين بأن الجيش سيركّز جهوده في شمال الضفة. ويلفت إلى أنه بالرغم من «قدرة الجيش العالية على إغلاق الدائرة بعد كلّ هجوم يُنفّذ (اعتقال المنفذ أو قتله وهدم بيته...)، يواجه الجيش معضلة كبيرة في إحباط عمليات من هذا النوع قبل تنفيذها»؛ والسبب في ذلك بحسبه يعود إلى «بساطة تنفيذ عمليات إطلاق النار، والكميات الكبيرة من الأسلحة المنتشرة في أيدي الفلسطينيين، والتي هُرّب الجزء الأكبر منها من طريق الأردن». وفي ظلّ هذا الوضع، يجد الجيش نفسه متخبّطاً في «اختيار مسار العمل»، بحسب ليف-رام، الذي يضيف «أنه بالرغم من أن عملية واسعة النطاق قد تشوبها أوجه قصور عديدة بنظر الجيش، إلّا أنه ليس من المستحيل أن نشهد عمليات واسعة في أوكار الإرهابيين في كلّ من نابلس وجنين في المدى القريب». في المقابل، يقرّ المحلل العسكري لصحيفة «هآرتس»، عاموس هرئيل، بأن «عمليات إطلاق النار ستتكرّر»، معتبراً أن شنّ الجيش عملية عسكرية «لن يبدّل الوضع الراهن، أو يقود إلى تهدئة مؤقتة»، ليخلص إلى أن «إدامة الاحتلال استحالت مهمة شاقة ومستنزِفة، خصوصاً لمن خُيّل إليه أنه بعد نهاية الانتفاضة الثانية يمكن لإسرائيل الحفاظ على الوضع القائم بأثمان زهيدة».

المستوطنون يَجردون الحساب مع بن غفير وسموترتش
أمّا بالنسبة إلى المستوطنين، فمثّلت عملية «عيلي» فرصة لجردة حساب مع وزير «الأمن القومي»، إيتمار بن غفير، أشدّ المحرّضين على شنّ عملية عسكرية واسعة؛ إذ علّقت المؤثّرة الإسرائيلية، حاغيت كليمان، على صورة نشرها بن غفير على صفحته في موقع «تويتر»، تعبيراً عن طلبه عقد المجلس الوزاري المصغّر (الكابينيت) ودعوته إليه لمناقشة الخيار العسكري المناسب للردّ، بالقول: «أوك. أنت تطالب إذاً. وماذا إذا لم يستجيبوا لطلبك؟ ستستقيل؟ هل هناك ديد لاين؟ ما الذي تقترحه أبعد من الديماغوجيا المتواصلة؟»، قبل أن تنعته بـ«الخشخيشة (لعبة يلهو بها الرُّضّع)». أمّا المؤثّر غيل فيلدمان، فكتب ردّاً على الطلب: «لقد بذلتَ جهداً كبيراً بدلاً من أن تكتب بكلّ بساطة: هل يمكن لأحد أن يُشركني في اتخاذ القرار؟». وفي الاتّجاه نفسه، كتب المؤثّر الإسرائيلي، يورام كورس: «إيتمار، أنت تتصرّف مثل الطفل المنبوذ. هذا هو الحال بالفعل. لكن لماذا ينبذونك، وينبذون أعضاء حزبك، وكتلة الصهيونية الدينية، ويستثنونكم من كلّ القرارات المتعلقة بالأمن؟ لقد انتُخبت ليس لأنك أهل لذلك، فأنت تعرف أن مؤهلاتك لا تخوّلك العمل كوزير، خصوصاً أنك تنتمي إلى المهمّشين من المجتمع الإسرائيلي. لقد أصبحت في الحكومة فقط بسبب وضع نتنياهو المزري والرغبة المستميتة في التمسّك بالكرسي وتخريب دولة إسرائيل... عليك أن تحفظ ماء وجهك وتستقيل من الحكومة، وإلّا ستُمحى من الخارطة السياسية». كذلك، علّق المؤثر الإسرائيلي، نأور نركيس، على مقطع فيديو نشره بن غفير من موقع العملية، وهو يطالب بشنّ هجوم عسكري واسع، قائلاً: «إنني مندهش من الجرأة التي يُرسل بها أشخاص لم يؤدّوا الخدمة العسكرية (كحال بن غفير) أبناء الجمهور المتحضّرين لخوض حروبهم الدينية».
ولم يكن الوضع في الحسابات الإلكترونية الشخصية لوزير المالية، والوزير في وزارة الأمن، بتسلئيل سموتريتش، أفضل حالاً؛ إذ انهال عليه المستوطنون بالنقد، مستعيدين تغريدات له عام 2022 انتقد فيها أداء الحكومة السابقة وضعفها تجاه العمليات الفلسطينية. وكتب أحدهم: «أنتم لا تعيدون الأمن والردع كما وعدتم، وإنما أيضاً تخربون دولة إسرائيل واقتصادها».