تبدأ الحروب وتنتهي، لكن للمعارك صيرورة أخرى تبقيها حاضرة. وليست جنين، ثالث أطراف المثلث الفلسطيني مع طبريا وحيفا صاحبات «مرج بن عامر»، سوى مثال حيّ دائم على ذلك، حيث تورّث المعارك جيلاً بعد جيلاً. وفي الحاضر، كما في التاريخ السحيق، ظلّت جنين ميداناً حافلاً بفرسان ذاهبين أو عائدين من موقعة جديدة. ثمّة صحافيون وكتّاب، رواة وشهود، وآخرون مرّوا على جنين. وثّق كل على طريقته، وأنا أحدهم، ثم ولّوا راحلين، وظلّت جنين تخوض معاركها المتواصلة، وتقدّم قوافل الشهداء في مواجهة عدوان مستمر يلاحق الأرواح والحقول التي ظلت ثابتة مع ثبات مرج بن عامر وإصراره على أن يحافظ على أضلاع المثلث كاملة.
ظلت جنين حاضرة قوية في المعارك التي قدّر لنا أن نعيش بعضها، مثل معركة مخيم جنين في نيسان عام 2002، بعد اجتياح مدن الضفة الغربية في انتفاضة الأقصى، وقبلها خلال سنوات انتفاضة الحجارة (1987-1994) مع مجموعات «الفهد الأسود» وغيرها، وصولاً إلى المواجهات المباشرة خلال العامين الأخيرين، وحتى الأيام الآخيرة.
وهو حضور لا ينفك يتحول تدريجياً إلى نمط حياة وسلوك. العدو يزداد شراسة وبطشاً، يضيّق الخناق بقواته وأدواته المختلفة ومستوطنيه، على حركة الناس وعلى حياتهم اليومية، حتى يصبح ذلك كله مخزوناً هائلاً من الغضب والقهر الذي ترثه الصدور أيضاً.
لا تنفك ذاكرة أهالي جنين تنتعش بتذكّر القتال الملحمي الذي خاضه الأهل والأجداد في المعارك ضد الاحتلال مما قبل النكبة، وفي النكبة، وحتى اليوم. فمعارك هذه المدينة حيّة حتى يومنا وقائمة لا تتوقف. وثمة معركة متواصلة، وهي معركة المرج والمدينة خلال النكبة. وليس غريباً أن تخوض جنين قتالاً شرساً ضد المحتل الذي حاول أن يستولي عليها في معارك 1948، والطبيعي أن كل معركة في جنين ستحفر عميقاً في ذاكرة المحتل، كتلك المقاومة القوية من أهل جنين ومن الجيش العراقي الذي قاتل ببسالة فيها، فاستشهد منهم، ودفنوا في ترابها، وها هي ذكرى تضحياتهم الكبيرة موجودة أمام الجميع في مقبرتهم والنصب التذكاري عند مدخل المدينة الجنوبي، ليراه كل من يمرّ من هناك. سبقهم قبل ذلك، الشيخ عز الدين القسام، بعدما هبط إلى حيفا قادماً من سوريا إثر مطاردة الفرنسيين له. واستأنف القسام ورفاقه قتالهم بمقاومة جنود الانتداب البريطاني في فلسطين. واستشهد القسام في قرية نزلة الشيخ زيد شمال يعبد جنوبي جنين، وليكون لاستشهاده الأثر الأكبر في اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، والتي شكلت نقطة تحول كبيرة في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية.
معارك هذه المدينة حيّة حتى يومنا وقائمة لا تتوقف. وثمّة معركة متواصلة، وهي معركة المرج والمدينة خلال النكبة


ومع احتلال إسرائيل بقية أرض فلسطين في حرب عام 1967، تصدّرت جنين، مع مدينة نابلس في شمال الضفة الغربية، أعمال المقاومة المسلحة والاحتجاجات التي انطلقت في مختلف مدن الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، لتبلغ ذروتها في السبعينيات، ومطلع الثمانينيات من القرن الماضي، لتكلّل لاحقاً باندلاع انتفاضة الحجارة عام 1978 من قطاع غزة.
لم تهدأ مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في جنين، وحتى مع قيام السلطة الفلسطينية عام 1994، ظلت المقاومة تتخذ أشكالاً مختلفة، مع مواصلة المقاومين من حركتَي «حماس» و«الجهاد» الإسلاميتين، ومع تقلّبات المقاومين من حركة «فتح»، صاحبة مشروع سلطة الحكم الذاتي، والذين عادوا إلى الظهور خلال العامين الأخيرين مع تجدد المواجهات التي انطلقت من جنين ونابلس، وامتدت إلى مناطق الضفة الغربية الأخرى، إضافة إلى إلهامها مقاومين في مناطق القدس.
لا تزال معركة جنين الحالية دائرة، ولا يبدو أنها ستكون الأخيرة. ليس ثمة مؤشر واحد على أنها ستكون كذلك، سيأتي صحافيون، وكتّاب آخرون، يؤدّون مهمتهم الوظيفية المؤقتة، ثم يعودون إلى أحبابهم، وسيظلّ أهل جنين حائرين أو متيقّنين على حد سواء، إن كانت جلبة المعركة مصدرها أصوات المعارك الأولى ما قبل النكبة، أو أنها معارك اليوم الممتدّة منذ ذلك الحين عند طرف مرج بن عامر، وكل أنحاء فلسطين.