اعتادت قوات الاحتلال، ومنذ سنوات طويلة، على اقتحام المدن الفلسطينية، عبر استخدام قواتها الخاصة المتنكّرة بالزي المدني، لتقوم بالاعتقال أو الاغتيال، ومن ثم تستدعي قوة أخرى بمدرعات مصفّحة لإخراجهم من المكان المستهدف. وهكذا كان المشهد في السنتين الماضيتين، إذ عملت قوات الاحتلال على استخدام التكتيكات نفسها من دون أن تتعرّض إلى خطر حقيقي يؤدي إلى وقوع خسائر بشرية في صفوفها. لكن ما حصل في مدينة جنين يوم الإثنين الماضي، كان خارج حسابات الاحتلال، فالمقاومة التي حضّرت نفسها لهذا اليوم الموعود، كانت تخبئ المفاجآت، بدأت عملية الاحتلال عند الرابعة فجراً، وانتهت عند الرابعة عصراً، وقد اعترف الاحتلال بمشاركة مئات الجنود من 6 وحدات مختلفة، منها «غفعاتي» و«ماجلان» و«دفدوفان» و«المستعربون» و«المظليون». فكان من نتيجة هذه العملية على الاحتلال إصابة 8 جنود، أحدهم مظلي جُرح خلال محاولات إنقاذ القوات المحاصرة، فضلاً عن تضرر وعطب 7 مركبات عسكرية، كما أعلنت مصادر في الاحتلال عن إصابة مروحية أباتشي كانت تشارك في العملية.
وفي ظل ما جرى، كانت للحدث تأثيرات كبرى، سواء على صعيد المقاومة الفلسطينية، التي أثبتت جدارتها في الميدان، بأخذ زمام المبادرة في تطويق القوة المهاجمة، وإلحاق الخسائر البشرية والمادية في صفوف القوى المهاجمة، فوصف الناشط الفلسطيني والأسير المحرر خالد جرادات (أبو إياد) ما حدث: «بكل تأكيد ما جرى هو تصعيد كبير وإعلان عن مرحلة جديدة ساخنة من الصراع، التصعيد بدأ من الاحتلال الذي اقتحم جنين ومخيمها وقتل وجرح العشرات، فكان الرد الدفاعي مفاجئاً للجميع بالقدرة على إعطاب الآليات، والرد الهجومي على المجزرة بعملية عيلي».
الصحافي والكاتب عصري فياض، من مخيم جنين، لخّص الحدث والمواجهات في المخيم يوم الإثنين الماضي بالتالي: «أولاً: الاحتلال فقد الكثير من معلوماته الأمنية عن المخيم وتشكيلاته العسكرية وتطورها. وهذا الأمر ظهر على شكل المفاجأة التي أربكته في المعركة الأخيرة. ثانياً: كلما مرّ الوقت، تطورت هذه الظاهرة، وأصبحت أكثر تنظيماً، خاصة مع وجود الدافع القوي للمقاومة والتضحية، إضافة إلى قوة وبسالة المجتمع المحلي الحاضن غير الموجود بنفس الحجم في أي مكان آخر، ففي المواجهة الأخيرة مثلاً أخلى أصحاب البيوت بيوتهم الموجودة على أطراف المخيم وعلى تماس المواجهة لصالح المقاتلين طوعاً، ولم يتوقف عطاؤهم عند هذا الحد، بل إن بعضهم أحضر المهدّات والمعاول لهدم الجدران لمساعدة المقاتلين في مهامهم. ثالثاً: أصبح ألم التضحيات معتاداً، خاصة بعد النجاحات التي تحققها تشكيلات المقاومة في المخيم، وهذا يرسخ هذه الظاهرة، ويطيل في عمرها، ويجعل من المخيم ملجأ للراحلين إليه، والاستدفاء في ظل مقاومته والمشاركة معهم».
أمّا عبد السلام أحمد، الناشط السياسي من مدينة غزة، فوصف تأثيرات المشهد المقاوم في جنين على قطاع غزة بالقول: «إن مشاهدة الآليات المحترقة لقوات الاحتلال، أدّت إلى حالة فرح شديد في كل قطاع غزة، فقامت مكبرات الصوت في مساجد القطاع بالتهليل والتكبير فرحاً بالعملية. فغزة لديها ثأر كبير مع الاحتلال، ومدينة جنين لديها رمزية كبيرة لدى كل أهالي القطاع، وذاكرة غزة تحتفظ لجنين بتاريخها المقاوم من القسام مروراً بمحمود الطوالبة، وانتهاء بكتيبة جنين». لكن ما يقلق أحمد هو مشاهد الاغتيال التي حدثت لمجموعة من المقاومين في جنين عبر استخدام الطائرات، حيث تمنى أن تتجنب المقاومة في الضفة الغربية ما جرى في غزة، وأن تتعلم من تجربتها، مؤكداً أن المعركة أصبحت اليوم في الضفة، وأن الضفة قادرة على إدارة الصراع مع الاحتلال وفق المعطيات الموجودة على الأرض اليوم.
المشهد لجهة الفلسطينيين ليس معقّداً، فالمقاومة المسلحة، في مختلف تشكيلاتها وعناوينها، وطرق عملها، أضحت اليوم ظاهرة للعيان


جرادات، بدوره، اعتبر أنّ «الاحتلال استغل ردة الفعل لرفع سقف التصعيد بإدخال سلاح الجو في الاغتيالات، وأظن أن عمليات الاغتيال بواسطة القصف ستتكرر خلال الفترة المقبلة، يرافقها أيضاً تصعيد المستوطنين في الضفة من هجماتهم على القرى والمدن الفلسطينية بعد أن بدأت تأخذ منحى تصاعدياً. لكن أظن أن الفلسطينيين وأهالي القرى لن يستسلموا لهجماتهم، وردهم سيكون بالوسائل المناسبة للجمهم».
وأمام تلك التحولات الدراماتيكية في مسار وآليات عمل المقاومة الفلسطينية في جنين وباقي مدن الضفة الغربية، يبقى السؤال الذي يطرح نفسه، والمتعلق بمآلات الصراع مع الاحتلال، والوجهة التي يسير نحوها، فيرى هنا رضوان محمد ناشط اجتماعي وإغاثي من نابلس أن «كل ما يحدث اليوم في ساحات الضفة الغربية، سواء المواجهة المفتوحة في جنين ونابلس، أو دخول المستوطنين على خط الصدام المباشر، عبر مهاجمة وإحراق المنازل والحقول والسيارات، سيقود بالضرورة إلى تشكيل أطر شعبية مقاومة، تتجاوز الأطر النخبوية المقاتلة، لتكون سنداً لها في إدامة الصراع مع الاحتلال».
بينما غياب أجهزة السلطة الفلسطينية عن المسرح، أمام هول الأحداث التي جرت في الأيام الأخيرة، اختصره مواطن فلسطيني من قرية ترمسعيا في قضاء رام الله، حيث طالب أمام الإعلام ورئيس الحكومة الفلسطينية الذي كان يزور القرية، بتنحي قيادة السلطة والاستقالة من مناصبهم، بعد عجزهم عن حماية الشعب الفلسطيني عبر القول: «لديكم 70 ألف عسكري بكامل سلاحهم، إما أن تقوموا بحمايتنا، وإما أن تسلحونا لنتمكن من الدفاع عن أنفسنا، وإلا عليكم الرحيل».

المشهد لدى الاحتلال
جدعون ليفي في صحيفة «هآرتس» وصف المشهد في جنين، خلال لقاء له مع «قناة 13» العبرية، بأنه قام بزيارة لمخيم جنين قبل أسابيع قليلة، وشاهد المئات من المقاتلين الفلسطينيين المتحصنين في المخيم، في مشهد لم يره منذ أكثر من 35 سنة، وفي رده على سؤال المذيع في القناة، ما العمل؟ أشار ليفي إلى أن الدخول إلى هناك سيؤدي إلى سفك الدم من كلا الجانبين «صُدمت في الزيارة الأخيرة التي كانت قبل أسابيع قليلة من حجم التنظيم هناك وكمية السلاح، هناك الكثير من الحواجز المفاجئة في الأزقة (...) إنه مكان مهيأ لحرب، لا توجد تنظيمات تتنافس مع بعضها، جميعهم معاً موحدون الآن. مكان صعب جداً جداً (...) إذا دخلنا إلى هناك فإنه سيُسفك دم، لا شك في ذلك. نحن داود أمام جالون، هكذا سيكون الوضع دائماً. لن يكون المكان (المخيم) سهلاً. الروح مصممة، إنهم مصممون وسيضحون بحياتهم لوقف أي هجوم إسرائيلي».
المشهد لجهة الفلسطينيين ليس معقّداً، فالمقاومة المسلحة، في مختلف تشكيلاتها وعناوينها، وطرق عملها، أضحت اليوم ظاهرة للعيان، والعين على جنين شاخصة، بعد أن رسخت التجربة فيها، وخيارات الاحتلال أضحت محدودة، ففي الهجوم سيدفع الثمن، وهذا ما بات يخشاه، وفي الانتظار، ستنمو وتتوسع المقاومة في الضفة، لتصبح كلها ساحة النزال.
ربما كان كمين جنين هو النقطة الأولى التي غيّرت قواعد الحرب المستمرة مرة أخرى، بعد أن غيّرها الشهيد محمود طوالبة قبل أكثر من عشرين سنة عندما قال: «الحرب كر وكر»، وفي نفس المكان الذي ولد واستشهد فيه النورسي محمود، يخرج الأبناء، فيستعيدون القول ذاته، ليس في أزقة المخيم فقط، بل في الأحياء التي ولدوا فيها خارج المخيم وعلى حدوده، في حيّي الهدف والجابريات، بعد أن دمّر الاحتلال منازل أهلهم في اجتياح جنين في عام 2002. فالأولاد على خطى الآباء كما الأجداد، يجدّدون العهد، ويعيدون للمقاومة طريقها وخياراتها.