لا تزال الضفة الغربية المحتلّة حاضرة بقوّة على طاولة القرار في تل أبيب، كمعضلة يتعثّر اتخاذ قرار في شأنها. وفيما تتعالى أصوات المستوطنين وزعمائهم المطالِبة بشنّ عملية واسعة في الضفة، على غرار «السور الواقي»، إلّا أن خياراً كهذا، وفضلاً عن كلفته العالية، فهو يصطدم بظروف غير مؤاتية على وقع تزايد التهديدات من خارج الساحات الفلسطينية.وفي هذا الجانب، يمكن التوقُّف عند الآتي:
أولاً: لا بدّ من الفصل بين الدعوات إلى شنّ عملية عسكرية واسعة النطاق في الضفة الغربية - والمقصود الدخول إلى المدن والمخيّمات والبلدات الفلسطينية والبحث عن أشخاص ووسائل قتالية -، وبين التنفيذ الفعلي لهكذا عملية؛ وهناك مفارقات يمكن إيرادها في هذا الإطار: الأولى، ردّة الفعل الغرائزية للمستوطنين وزعماء اليمين المتطرّف والفاشيين، ممَّن يخلطون بين القدرة الفعلية التي تتحدّد انطلاقاً من معادلة الثمن والجدوى والتداعيات، والتفكير «الرغبوي» القائم على الأمنيات والرؤية المغلوطة لحدود القوّة واستخداماتها.
ثانياً: الجهتان المتحكّمتان فعليّاً بقرار العملية العسكرية، هما المؤسّستان العسكرية والأمنية، اللتَان تتّخذان القرار بالاستناد إلى الرأي المهني المبنيّ على معادلات القوّة وتفعيلها، التي تلحظ تكلفة «اجتياح» الضفة، بما يشمل التداعيات في الضفة نفسها والساحات الفلسطينية الأخرى، وفي ساحات المواجهة شمالاً وشرقاً. وفي المقابل، يبني اليمين المتطرّف وزعماء الاستيطان، الذين يطالبون بشنّ العملية، موقفهم وفقاً لرؤيتهم الخاصّة. إلّا أن الأثمان، مهما علت، تبقى دون الفائدة التي يتوخّونها، والمتمثّلة في إركاع الفلسطينيين وتدجينهم وإنهاء مقاومتهم، بما يتيح للاستيطان المضيّ قُدماً بلا عوائق، من أجل ضمّ الضفة الغربية إلى إسرائيل والقضاء مسبقاً على أيّ آمال لاحقة في إطلاق عملية سياسية أو إنشاء كيان سياسي فلسطيني.
ثالثاً: توضح المعطيات المُشار إليها آنفاً، أن أجندة كراهية الفلسطينيين واستعراض هذه الكراهية بأفعال متطرّفة - كما هو حال رئيس حزب «القوة اليهودية»، وزير «الأمن القومي» إيتمار بن غفير -، لا تكفي للتخطيط لعملية واسعة النطاق في الضفة والتنفيذ، اللذين يحتاجان إلى رؤية مبنيّة على معادلات مادية.
يبني اليمين المتطرّف وزعماء الاستيطان، الذين يطالبون بشنّ العملية، موقفهم وفقاً لرؤيتهم الخاصّة


رابعاً: كما كان متوقّعاً، امتنع الجيش الإسرائيلي عن تنفيذ عملية واسعة النطاق في الضفة، على غرار عملية «السور الواقي 2». وبدلاً من ذلك، لجأ إلى خيارات استعراضية توحي بوجود تطوّر في مواجهة الفلسطينيين، من شأنه أن يؤثّر إيجاباً في وعي المستوطنين ويهدّئ من حدّة مطالبهم المتطرّفة، وهو استئناف الاغتيالات عبر سلاح الجو في الضفة الغربية، الأمر الذي لم يقدم عليه منذ عقدين. وتزامن ذلك مع العمل على التضخيم والمبالغة في وصف عمليات الاغتيال من الجو التي استهدفت مقاومين فلسطينيين، على وقع «تطبيل» عسكري وسياسي احتلّ العناوين الرئيسة في الإعلام العبري، مصحوباً بعبارات موجّهة في المواقف والتصريحات، توحي وكأن الجيش الإسرائيلي استخدم «سلاحاً نووياً» في الضفة.
خامساً: حتى الأمس القريب، استعاض الاحتلال عن الإغارة بسلاح الجو في الضفة المحتلّة، بعمليات تنفّذها القوات البرية. ويوحي قرار الامتناع عن الاستهداف جواً، بأن الأمن وطرق معالجة التصعيد في الضفة كل ذلك «مقدورٌ عليه»، من دون اللجوء إلى قوة تشير إلى فقدان السيطرة، كما هو الحال في أراضي عام 1948. وفي هذا السياق، تبرز العملية التي نفّذتها طائرات إسرائيلية في جنين، ما يشير فعليّاً إلى فقدان السيطرة.
سادساً: بدا لافتاً، إعلامياً، تدخُّل عدد من المعلّقين والخبراء في تل أبيب، ممّن يُعدّون مختصّين في الشؤون الأمنية والعسكرية والاستراتيجية، للمطالبة، تعليقاً على الدعوات إلى تنفيذ عملية واسعة، بعدم الانشغال بتصعيد مع الجانب الفلسطيني في الضفة الغربية، وتركيز الجهود على مواجهة تهديدات قائمة وأخرى تتشكّل خارج الساحات الفلسطينية، بما يشمل التهديد النووي الإيراني الداهم، وكذلك تهديد «حزب الله» المتعاظم في لبنان، وغيرهما. لكن هل يمكن إسرائيل أن تتجاهل التهديد الذي تشكّله الضفة؟ وهل يمكن أن توجّه مواردها وقدراتها نحو الخارج، وهي تعاني من تهديدات وازنة نسبياً في «الداخل»؟
سابعاً: تبقى الإشارة إلى واحدة من أهمّ نتائج العمل المقاوم في العقد الأخير، التي تتمثّل في صدّ الاستراتيجية الإسرائيلية لمواجهة القضيّة الفلسطينية، وهي الفصل بين الساحات، بين الداخل والقدس والضفة وقطاع غزة، وجَعل كلّ ساحة من هذه الساحات قضيّة خاصة بذاتها، ومختلفة عن قضية الساحة الأخرى. وبينما تغنّت إسرائيل طويلاً بأنها نجحت في فصل الساحات الفلسطينية، تُظهر النتائج أن المقاومة الفلسطينية نجحت في إسقاط هذه المعادلة، فجاءت النتيجة معكوسة: منع الفصل وتعزيز اللحمة. ووفقاً لتعبيرات عبرية، قُلِبت المعادلة وباتت الساحتان ملتصقتيْن. وهي من النتائج التي يجب التركيز عليها.