أكثر من ألفَي جندي من وحدات وألوية نخبوية في جيش الاحتلال، يشاركون منذ ليل الأحد - الاثنين، في العدوان على مدينة جنين ومخيمها الذي لا تتجاوز مساحته كيلومتراً مربّعاً واحداً، ويضمّ بضع مئات من المقاومين المسلّحين. حشد عسكري هائل يسانده «جيش» من الطائرات الحربية الإسرائيلية، والمسيّرات الانتحارية، والجرافات التي أحالت الطرقات والشوارع فتاتاً، في ما يختصر بمجمله المعضلة الإسرائيلية المزمنة تجاه جنين، والتي لخّصها معظم المحلّلين الإسرائيلين بالقول إن انتهاء العدوان الحالي لن يحول دون استئناف عمليات المقاومة، فيما عبّر عنها الرئيس الأسبق لشعبة الاستخبارات العسكرية («أمان»)، تامير هايمَن، بأن «جنين ليست عاصمة للمقاومة، لأن المقاومة ليس لها عاصمة، بل هي في قلوب الفلسطينيين الذين يرفضون وجود إسرائيل».

مع ذلك، فإن ما دفع إسرائيل إلى شنّ هذا العدوان، وفقاً لرئيس المحكمة العسكرية سابقاً (كان شاغلاً لهذا المنصب إبان اجتياح جنين عام 2002)، إيلان كاتس، هو الحؤول دون تحوّل جنين إلى «سلطة للإرهاب على غرار تلك التي في غزة»، وخصوصاً أن الأولى محاطة بالمستوطنات الإسرائيلية، وقريبة من العمق الإسرائيلي جغرافياً، ويمكن لتطوّر البنية التحتية الصاروخية فيها أن يكون ذا نتائج كارثية. وطبقاً لكاتس، فمن غير المتوقّع أن «تقضي العملية على البنية التحتية للإرهاب بالمطلق»، غير أنها «مطلوبة وضرورية ومبرّرة بغية منع تحوّل جنين إلى غزة (ثانية)». ويستذكر كاتس مقتل 23 جندياً إسرائيلياً وإصابة العشرات في عملية «السور الواقي»، معتبراً أن هؤلاء سقطوا نتيجة «محاولات إسرائيل تجنّب سقوط المدنيين الأبرياء». لكن العملية التي تجري اليوم، «هدفها القضاء على البنية التحتية الإرهابية»، والتي «أنشئت مجدّداً (أي بعد القضاء عليها قبل 21 عاماً)، من دون أيّ إزعاج أو عراقيل، بعدما قرّرت السلطة الفلسطينية التحلّل من مهمّتها، بالتزامن مع قرار عدد من عناصرها الأمنيين الانخراط في الإرهاب»؛ وعليه، فليس مهمّاً، من وجهة نظر كاتس، الحفاظ على أرواح الناس، بل المطلوب «إنجاز المهمة مع الحفاظ على أرواح الجنود». وإذ يدّعي بأن «الإرهاب في جنين» هو الذي «يعطّل حياة السكان، ويقضي على الحياة الاقتصادية هناك» وليس الاحتلال القائم منذ 75 عاماً، فالعملية، بالنسبة إليه، «ليست مبرّرة فحسب أمام المجتمع الدولي، بل هي مطلوبة، وإذا فشلت فمن الأفضل أن تنسحب إسرائيل من اتفاقيات أوسلو، وإلّا سيصبح مستوطنو الشمال ومنطقة مرج ابن عامر، رهائن كحال سكان الجنوب بالنسبة إلى غزة». ويضيف إنه إن «لم يقضَ على الإرهاب الآن، فإن الأمر سيتطلّب استخدام المزيد من القوة مستقبلاً».
في المقابل، يعتقد المحلّل العسكري لصحيفة «يديعوت أحرونوت»، رون بن يشاي، أن من الصعب استكشاف ما إذا «كانت العملية في جنين ستخلق ردعاً فورياً ضدّ المسلحين وضدّ حماس والجهاد الإسلامي، وحزب الله وإيران اللّذَين يموّلانهم»، مضيفاً إن «من المتوقّع عودة الخلايا المسلحة من الجهاد، وتلك المنشقة عن فتح، للعمل مجدداً في مخيم جنين»، عازياً ذلك إلى «عدم تحقيق الجيش النتائج المرجوّة في الوصول إلى جميع المسلحين». ويستدرك بن يشاي بأن «العملية الحالية حققت للجيش الإسرائيلي حرية العمل في جنين، والقدرة على تنفيذ الاستراتيجية الجديدة، فضلاً عن منح إسرائيل الشرعية الدولية، والأهم من ذلك أن الفصائل الفلسطينية في غزة وحتى من لبنان لم تتدخل». وإلى أبعد من ذلك، يذهب رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة «بار إيلان»، أشر كوهين، في مقالة في صحيفة «إسرائيل اليوم»، إلى أن إسرائيل «تخوض حرب استقلال (نكبة) ثانية في هذه الأيام»، وهي حرب «من أجل استعادة السيادة والاستقلال»، مشيراً إلى أنه «بالرغم من المتنكّرين لهذه الحقيقة بسبب ازدهار إسرائيل بالفعل، فإن التحدّيات التراكمية في تأكيد السيادة والاستقلال أكبر»، متابعاً أن هذا الشعور «اشتدّ بسبب فقدان السيطرة في شمال السامرة (الضفة)، والذي قاد إلى العملية في جنين».
يرى محلّلون إسرائيليون أن عملية عسكرية واحدة، مهما كانت ناجحة، لن تحلّ مشكلة «الإرهاب» في الضفة


ويسحب كوهين الشعور بفقدان السيطرة ذاك، على ما يحدث أيضاً في النقب جنوب فلسطين المحتلة، حيث تشهد السلطات الإسرائيلية فقداناً للحوكمة والسيطرة على خلفية انتشار الأسلحة «التي يمكن أن تُستخدم لأغراض قومية». كما يسحبه على ما حدث أخيراً في الجليل، حيث هبّ دروز فلسطين نصرة لأخوتهم في الجولان الذين خاضوا مواجهات عنيفة ضدّ مشروع المراوح، معتبراً أن «مثيري الشغب الدروز أعطوا لمحة لإسرائيل عمّا يمكن أن يحدث في المستقبل» من تطوّرات على غرار هبّة أيار 2021. وفي السياق نفسه، يعرّج على دخول فلسطينيين من أمّ الفحم إلى كيبوتس «مجدو» الذي تسيطر عليه منظمة «الحارس الصغير»، معتبراً أن هؤلاء «لم يعودوا يكتفون بإحياء ذكرى النكبة، وإنما يحاولون تصحيحها عملياً بشكل تدريجي. ومعنى هذا التصحيح بسيط: القضاء على دولة إسرائيل بشكلها الحالي أو على الإطلاق»، لافتاً إلى أن «الأمثلة الواردة من داخل الخط الأخضر (مناطق الـ 48 المحتلة)، يتزامن تسجيلها مع محاولات فلسطينية للسيطرة على مناطق "ج" عبر البناء غير القانوني الذي ما فتئ يقطّع أوصال المستوطنات»، مضيفاً إن تنامي المقاومة في جنين، والذي قاد إلى العدوان الحالي «يذكّرنا فقط بالقدرة التفجيرية التي تتمتّع بها مواقع مختلفة (سواء في الـ 48 أو غيرها)»، ما يضع «الدولة» أمام «تحدّيات تبدو كأنها منفصلة، لكنها مترابطة برباط وطني فلسطيني متنامٍ». ويختم كوهين بالتذكير بكلمات وزير الأمن الحالي، يوآف غالانت، الذي خاطب فلسطينيّي الـ 48 عام 2022 من منصة «الكنيست» باللغتين العبرية والعربية مهدداً: «إن الأثمان التي ستدفعونها ستكون باهظة للغاية. هذه الأشياء التي تحدث الآن هي ظاهرة قصيرة المدى، لأن اللحظة ستأتي وقد تتخطّون الخط الأحمر، وعندما تتخطّون الخط الأحمر ستكون الأثمان باهظة للغاية... سنصل إلى وضع اللامفر، وهذا الأخير هو أقوى سلاح يمتلكه الشعب اليهودي»، خاتماً أنه بالرغم من معارضته «الكليشه» القائل إن «التاريخ يعيد نفسه»، فإن «على السكّان المعادين أن يتذكّروا كيف انتهت حرب الاستقلال الأولى بالنسبة إليهم».
من جهته، يرى الجنرال في الاحتياط والرئيس السابق لـ«مجلس الأمن القومي» الإسرائيلي، غيورا آيلاند، في مقالة في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، أن الهدف من العملية العسكرية هو «القضاء على أكبر ما يمكن من البنية التحتية وناشطي الإرهاب، وبأقلّ ما يمكن من مخاطر على قواتنا، واستهداف الحدّ الأدنى من الأبرياء، وفي أقصر وقت»، مستدركاً بأن «إنجازات عمليات عسكرية كهذه يكون سقفها مرتفعاً في الساعات الأولى، ثمّ تميل إلى التضاؤل بمرور الوقت». لكنه يشدّد على ضرورة «إنهائها قبل أيّ تورّط عسكري، وقبل أن تتسرب النيران إلى مناطق أخرى، وقبل أن تبدأ التنديدات ضدنا من جانب أصدقاء في العالم العربي بالتحوّل إلى خطوات سياسية». ويلفت آيلاند إلى أن «حماس امتنعت عن إطلاق صواريخ من غزة»، مضيفاً إنه بالرغم من كونها غير معنيّة بالقتال حالياً، فـ«من غير المستبعد أن تسمح بإطلاق بضعة صواريخ تضامنية». ويعزو «الواقع الأمني الصعب» في شمال الضفة إلى «عوامل غير مرتبطة بإسرائيل، بينها ضخّ المال والسلاح الإيراني، والضعف الداخلي للسلطة الفلسطينية، ووجود آلاف الشبان الفلسطينيين اليائسين والذين يعتاشون من إطلاق النار على إسرائيليين»، مضيفاً إن «إيران تتطلّع إلى تكتّل الجبهات ضد إسرائيل. وهي تشعر بأن مكانتها المتحسّنة تُنشئ فرصة لخطوة من هذا النوع».
أمّا المحلل العسكري لصحيفة «معاريف»، طال ليف رام، فيشير إلى أن جيش الاحتلال «كان قريباً، مساء أمس، من تحقيق غايته التي حدّدها له المستوى السياسي»، من دون أن يوضح ماهية هذه الغاية، لافتاً إلى أن «عديد القوات المشاركة في العملية يرقى إلى حجم لواء عسكري بمساندة جوية، مهمّته استهداف البنية التحتية الإرهابية التي رُصدت مسبقاً كأهداف خلال عملية جمع المعلومات التي استمرّ قسم منها شهوراً طويلة في قيادة المنطقة الوسطى»، معتبراً أن الهدف من ذلك هو «تحقيق الردع الإسرائيلي، وإظهار أن الجيش متمكّن من الوصول إلى قلب مخيم جنين واستهداف التنظيمات فيه»، علماً بأن الجيش لم يتمكّن إلى الآن من اقتحام المخيم. وبالرغم من أن «مستوى المقاومة في المخيم كان أقلّ من التقديرات»، بحسب ليف رام، إلّا أنهم «في الجيش يدركون جيداً، وكذلك وزير الأمن يوآف غالانت، أن صورة القتال قد تتغيّر بسرعة... ومهما كانت عملية عسكرية واحدة ناجحة، فإنها لن تحلّ مشكلة الإرهاب في يهودا والسامرة»، وفق ما ينبّه إليه المحلل العسكري.