لا يقتصر تقويم معركة جنين على البعد الميداني والتكتيكي، بل يشمل بالضرورة حيثيات قرار العدوان وماهيّته والاعتبارات المؤثّرة في بلورته، وصولاً إلى تقدير مآلات اليوم الذي يليه، والذي ستكون له الكلمة الفصل في بلورة صورة النصر أو الهزيمة، علماً أن هذه الأخيرة لاحت مؤشّراتها مبكراً. مؤشّراتٌ بدأ، في الواقع، تواردها منذ ما قبل انطلاق المعركة؛ إذ إن تقدير القيادتين السياسية والعسكرية للمخاطر المرافقة لعملية عسكرية واسعة في الضفة الغربية المحتلّة، وذلك نتيجة العِبر المستخلصة من التجارب السابقة في لبنان وفلسطين، والتي أفهمت الجيل الحالي من القادة الإسرائيليين أن ثمّة تغييراً في طبيعة التهديد عمّا ألفه الكيان في عقود سابقة، يفرض الإقرار بمحدودية قوّة الجيش، وفي الوقت نفسه امتلاك المقاومة القدرة على الحدّ من مفاعيل نقاط تفوّقه التكنولوجية والعسكرية، حملهما على إزاحة الأهداف الطموحة، والركون بدلاً منها إلى أهداف متواضعة تتّسم أيضاً بالضبابية، مع علمهما المسبق أن تأثيرها - في حال تحقّقها - لن يكون جوهرياً على وجود المقاومة واستمرارها وتطوّرها. وأتى ذلك في أعقاب رفض الجيش الإسرائيلي خوض عملية مشابهة لعدوان "السور الواقي" الذي شنّه في عام 2002، إدراكاً منه للأثمان والتداعيات التي يمكن أن تترتّب على خيار كهذا. وحتى مع قبوله بعملية محدودة الأهداف والنطاق الجغرافي، فقد تخوّف الجيش من تمدّدها زمنياً، بحيث يتحوّل معها الجنود والضباط إلى أهداف للمقاومين، وهذا ما يفسّر حصره إيّاها بـ 48 ساعة، في ما يعني إقراره مسبقاً بأن المقاومين سيحافظون على قدراتهم القتالية، ويتحوّلون من الدفاع إلى الهجوم.وكان ممثّلو التيّار اليميني الفاشي قد دأبوا على المطالبة بعدوان واسع على الضفة، ترجمة لتصوّراتهم الأيديولوجية واعتقادهم بأن الخضوع للمعادلات التي يفرضها المقاومون سيشكّل خطراً على أمن إسرائيل ومستقبلها. لكن الجيش دعا، في مقابل ذلك، إلى نسخة مكثّفة من عملية "كاسر الأمواج" المستمرّة منذ عام، والتي لم تحقّق الأهداف المرجوّة منها، ولكن من دون الوقوع في سيناريو يفوق خطورةً الوضع القائم حالياً. وما بين الطرفَين، سعى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ووزير أمنه يوآف غالانت، إلى بلورة خيار وسطي، في محاولة لاسترضاء تيّار "الصهيونية الدينية" والمستوطنين وممثّليهم من ناحية، وتسكيت مخاوف الجيش من ناحية أخرى. ولذا، جاء قرار العدوان خليطاً من الدوافع الموضوعية والمهنية، إضافة إلى الاعتبارات السياسية الداخلية، فيما لم تقتصر نتائجه على الفشل في إحباط تحوّل جنين إلى ملجأ للمقاومة والمقاومين، بل تعدّته إلى مفعول عكسي لاستحالة المدينة نموذجاً ملهماً في الاشتباك والصمود، وهو ما تجلّى سريعاً في عملية تل أبيب، التي وجّهت رسالة مدوّية إلى صنّاع القرار في دولة الاحتلال.
أقصى ما يستطيع الاحتلال ادّعاء تحقيقه هو قتل عدد من المقاومين وتدمير بعض المنشآت


في الواقع، أتت العملية في توقيت مثالي، لتؤكد أن خيارات المقاومة لا تقتصر على ساحة جنين، وأنها يمكن أن تصل إلى أبعد مدى على مستوى الساحات والتكتيكات. وفي هذا السياق، لم يكن صدفةً اختيار مكان العملية؛ إذ كان بإمكان المقاوم الشهيد تنفيذها في الضفة أو في أيّ مكان آخر داخل الكيان، لكنه اختار تل أبيب بما تحمله من رمزية وعمق استراتيجي، بهدف التأكيد لقادة العدو أن استمرار العدوان سيحفّز المقاومين على الضرب ومن دون خطوط حمر. كذلك، أنبأ تحدّر الشهيد من منطقة الخليل، بأن جنين ليست معزولة، وأن استطالة المعركة كان من شأنها استجلاب تداعيات في كلّ أنحاء الضفة، فيما مثّل تبنّي "كتائب عز الدين القسام" للهجوم تعبيراً عن الارتقاء في تحدّي مؤسّسة القرار السياسي والأمني في تل أبيب، وتحذيراً لها من أنها لن تتمكّن من تقييد حركة المقاومة في الدفاع والهجوم، وأن الأخيرة لا تزال تملك المبادرة والقدرة.
بالنتيجة، فإن أقصى ما يستطيع الاحتلال ادّعاء تحقيقه هو قتل عدد من المقاومين وتدمير بعض المنشآت، وهي نتائج متوقّعة في أيّ معركة يتفوّق فيها العدو على المستويات كافة. أمّا في العمق، فإن المعركة كشفت أيضاً عن عمق التحوّل الذي طرأ على وعي قادة جيش العدو، إلى حدّ أنهم باتوا يقرّون مسبقاً وعلناً بأنه ليس بالإمكان إحداث تغييرات جذرية في الواقع، وأن أقصى ما يمكن إنجازه هو تسجيل بعض النقاط التي ستمحوها الجولات والمحطّات التي ستلي، في ما يتعارض مع عقيدة الجيش القتالية و"انتصاراته التاريخية" في العقود الأولى من قيام دولة الاحتلال. ومع أن نتنياهو هَدَفَ من وراء القول إن معركة جنين لن تكون لمرّة واحدة، إلى محاولة تعزيز صورة إسرائيل المبادِرة، إلّا أن كلامه عكس إقراراً بفشل العدوان في إضعاف المقاومة أو شلّ قدراتها وردعها، وبدا بمثابة تهيئة للرأي العام الإسرائيلي لتلقّي الضربة التالية التي سيتعرّض لها الجنود أو المستوطنون.