انتهت العملية العسكرية في مخيم جنين، على غير ما تمنّى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو. 40 ساعة متواصلة من القتال، حاولت فيها المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية الدخول إلى المخيم الذي لا تزيد مساحته عن كيلومتر مربع واحد، متسلِّحةً بعاملَي المباغتة، التي تشي استعدادات المقاومين الكبيرة بأنها أُجهضت قبل أن تبدأ العملية بأشهر؛ والصدمة، التي ظن الاحتلال أن الاستخدام المكثّف للطائرات الحربية والمسيّرة يمكن أن يحققها، فيما امتصّها المقاومون، بل وتعاطوا معها بشكل احترافي. بدا واضحاً، في الساعات الأخيرة من عمر العدوان، أن زيارة نتنياهو إلى موقع سالم العسكري القريب من المخيم، هدفت إلى أمرَين: الأوّل، هو محاولة شراء أكبر قدر ممكن من الوقت؛ والآخر، رفع الروح المعنوية، ليس للجنود فقط، الذين واصلوا إرسال تقاريرهم بصعوبة القتال، وتعذّر الدخول البرّي إلى المخيم، وإنّما أيضاً إلى الجبهة الداخلية في دولة الاحتلال، وإلى كتلة اليمين تحديداً، وعلى رأسها سكان مستوطنات الضفة الغربية المحتلة، والتي ظلّ ممثّلوها طوال عامٍ كامل يطالبون بتنفيذ عملية "سور واقٍ" ثانية في شمال الضفة الغربية، تُعيد صناعة حالة الأمان والاستقرار، وتستأصل البنى التحتية لخلايا المقاومة. غير أن حسابات الأزقة، خالفت، بل صدمت وفاجأت تقديرات المدرعات والطائرات المسيّرة، وأكثر من ألف جندي تناوبوا على العمل خلال ساعات القتال. في أزقة المخيم وشوارعه، أبدى مقاتلو "كتيبة جنين" أداءً قتالياً لافتاً، غابت عنه العشوائية والاندفاع والحماسة غير محسوبة العواقب، وحلّ بدلاً منها العمل المنظّم والضربات الموجعة المحسوبة والمعدّ لها سلفاً. المئات من العبوات الناسفة، وشراك النار، والأنفاق التي حُفرت بعناية واحترافية، جهّزها المقاومون طوال أشهر خلت، لعبت الدور المحوري في الميدان، ليبلغ عدد الكمائن الناجحة نحو سبعة. وبمعزل عن حصيلة الخسائر البشرية التي يتكتّم عليها جيش الاحتلال بكلّ تأكيد، فقد أدت كلّ عبوة ناسفة انفجرت، مهمّتها العسكرية المهنية في عرقلة تقدم الجيش وتغيير خططه ومساراته على نحوٍ مستمر. على أن الصفعة الأكثر إيلاماً، أو لكمة النهاية، تعرّض لها جيش العدو في الساعة الأخيرة من القتال؛ إذ نجح المقاومون في إيقاع قوة من وحدة «إيغوز» الخاصة، التابعة للواء «الكوماندوز»، في شرَك ناري محكم، تسبّب بحسب اعتراف جيش الاحتلال، بمقتل جندي واحد. ودفعت هذه «الفضيحة» المؤسسة الأمنية إلى فرض حظر على نشر أيّ معلومات تتعلّق بالمعركة، فيما كانت صفحات المستوطنين في «تويتر» و «تليغرام» تتحدث عن خسائر بشرية كبيرة مُني بها الجيش.
أبدى مقاتلو «كتيبة جنين» أداءً قتالياً لافتاً، غابت عنه العشوائية والاندفاع والحماسة غير محسوبة العواقب


ما الذي حدث في الساعات الأخيرة؟ يجيب مصدر في كتيبة جنين تحدّثت معه «الأخبار»، بأن الاحتلال نفّذ خلال الساعات الثلاث الأخيرة من عمر المعركة، عدّة انسحابات وهمية، حاول من خلالها استدراج المقاومين للخروج من مكامنهم، وتفقّد البيوت والسراديب التي يُعتقد أن فيها جرحى أو شهداء، وبالتالي تتوفّر لديه أهداف يمكن اغتيالها من الجو. ومن ثمّ، مارس خديعة من نوعٍ آخر، حينما استولى على هواتف بعض المعتقلين، واتّصل منها بالمقاومين، طالباً منهم التوجّه إلى نقاط معينة لتقديم المساعدة والدعم، أو لوجود فرصة سانحة لتنفيذ عمل مقاوم. في غضون ذلك، كان الآلاف من الأهالي ينتشرون في ساحات المخيم وأزقته، ويقومون بمهمة الاستطلاع والتأكد من نظافة الأماكن وتأمينها، ويوصلون الأخبار إلى المقاومين. «عصم هذا الدور الفدائي الذي قام به الأهالي، المقاومين من الوقوع فريسة لمخطط الخديعة، الذي كان من شأنه أن يمنح جيش الاحتلال صورة الانتصار، إن تمكّن من قنص أو قصف أو اعتقال عدد كبير من المقاومين كما كان يتمنّى»، وفق المصدر نفسه، الذي يضيف أن «التعليمات إلى المقاومين كانت واضحة: لا تغادروا أماكنكم إلّا بإشارة واضحة»، متابعاً أن «تقديرنا كان دقيقاً، وقد دلّل عليه اكتشاف الأهالي عدداً من القناصين الإسرائيليين المتحصّنين في بناية سكنية على أطراف المخيم، وذلك بعد الانسحاب الفعلي للجيش بأكثر من ساعة، وقد اشتبكنا مع القوة المتحصنة، ما دفع الاحتلال إلى الزجّ بأكثر من 50 آلية عسكرية لإجلاء قوة الكمين».
بنتيجة ما حدث، لم تنفّذ العملية العسكرية المنشودة، والتي دُرست وأُشبعت بحثاً استخبارياً على مدار عامٍ كامل، أكثر ممّا حقّقه أيّ اجتياح جزئي تكرّرت أمثاله عشرات المرات خلال العامين الماضيين. وفيما كان الرهان العسكري على أن ينجح الجيش في القبض على «صيد ثمين» يحقّق صورة النصر المشتهاة، فشل جيش الاحتلال المدعّم بقوات «يمام» و«ماجلان» و«دفدوفان» و«إيغوز» حتى في صناعة صورة «سينمائية للانسحاب». إذ عزّزت المشاهد التي نشرها الأهالي لبعض قوات الجيش وهي تحمل جرحاها وقتلاها، ويرشقها الأهالي بالحجارة، فيما تجرّ أخرى الجيبات المعطوبة والعربات المدمرة، صورة انتصار فلسطيني ناجز، دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى أن يعلن أن هذه العملية «ستتكرّر مرات ومرات».