أجبرت الصدمة التي أحدثها الأداء القتالي الاحترافي لمقاتلي «كتيبة جنين»، المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية على التخلّي عن التمسّك بإعلان هدف محدّد لعملية اقتحام المخيم. فبعدما رفع الإعلام العبري السقف في الساعات الأولى من العملية، وتبجّح بأن الهدف من الهجوم هو كسر الحالة التي يمثّلها مخيم جنين بوصفه «حاضنة للإرهاب» في الضفة الغربية المحتلّة، اضطر رئيس أركان جيش الاحتلال، هرتسي هاليفي، في نهاية العملية، إلى الإعلان أن المنجز الأكبر كان تسهيل أيّ اقتحام لاحق للمخيم، مع الإشارة، هنا، إلى أن الدخول إلى «وكر الدبابير» ظلّ طوال مدّة عام ونصف عام سبقت واقعة تفجير ناقلة «النمر» في الثلث الأخير من شهر حزيران الماضي، أشبه بـ«نزهة» أو سلوك روتيني، لا يتطلّب التحشيد ولا استنفار القوات الخاصة والطائرات المروحية والمسيّرة. مع ذلك، وعلى الرغم من أن النزول التدريجي في سلّم الآمال الإسرائيلية من العملية التي استمرّ التخطيط لها طوال عامٍ كامل، وتأجّلت مراراً، كان أحد مفاعيل ما أبداه المقاومون من صلابة وتنظيم وإرادة قتال عالية، إلّا أن التحركات الميدانية الاستخبارية التي أعقبت انتهاء الهجوم، على صعيد الحضور المكثّف لطائرات الاستطلاع في سماء المخيم، والتحشيد المتواصل للآليات والمدرعات في المواقع القريبة منه، أنبأت بأن ثمّة ما يتمّ تجهيزه في الأيام أو الأسابيع المقبلة، حيث سيكون الهدف أيضاً مخيم جنين، وإن حاول الاحتلال الإيحاء بأولوية العمل في مناطق أخرى من مثل نابلس وطولكرم، كما فعل ليل الأربعاء - الخميس، عندما حشد العشرات من الآليات في معسكر حوارة القريب من مدينة نابلس.
وكان ضابط إسرائيلي رفيع المستوى، قد قال، في مقابلة مع صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية أمس، إن «الهدف الأساسي للعملية في جنين هو ضرب البنية التحتية الكبيرة الخاصة بالخلايا المسلحة والتي تمّ تحديدها وتدميرها»، زاعماً أن العملية «كانت تركّز على تجنّب قتل عدد كبير من الفلسطينيين»، مضيفاً «(أنّنا) لم نبحث عن صورة 200 قتيل من الإرهابيين، والعملية كانت ضدّ البنى التحتية الإرهابية الكبيرة». ومع أن نتاجات العملية التي أدت إلى ارتقاء 12 شهيداً، ثمانية منهم من عناصر «كتيبة جنين»، ولم تسفر إلّا عن مصادرة بعض من الملابس العسكرية وأكسسوارات البنادق والأكواع المتفجرة، تتقاطع ظاهرياً مع ادّعاءات الاحتلال لجهة «الترشيد» في إيقاع الخسائر في صفوف المدنيين، فإن الدافع الحقيقي وراء الاقتصاد في إطلاق النار، هو محاذرة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية الوقوع في الخطأ الذي وقع فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، أرييل شارون، إبان اقتحام المخيم في عام 2002. آنذاك، استخدم جيش الاحتلال قوة نارية هائلة، لم تتناسب مع حجم التهديد العسكري القائم؛ إذ تسبّبت بضعة أيام من القتال بهدم منازل المخيم كافة، وقتل وإصابة المئات من المواطنين، وهو الأمر الذي قاد بالنتيجة، وفق الفهم الإسرائيلي، إلى ولادة جيل المقاومين الجدد، الذي تربّى على أدبيات الثأر والانتقام، وحفظ أيقونات «ملحمة جنين» في ذهنه على أنها النموذج الأمثل الذي يجب أن تعاش الحياة لإعادة إنتاجه. في الفهم الإسرائيلي أيضاً الذي عبّر عنه الجنرال (احتياط) عنات سوركيس في مقالٍ نشره في «يديعوت أحرونوت» حمل عنوان «المزيد من الشيء نفسه»، فإن السلوك الإسرائيلي القائم على استخدام القوة، بوصفها الخيار الوحيد للتعاطي مع الفلسطينيين، سيعاود إنتاج الحالة المقاومة نفسها، حتى وإن تمّ الإجهاز على مقاومي جنين في عملية «البيت والبستان».
تنتظر مخيم جنين عمليات أخرى، سترتكز في معطياتها على تحليل المعلومات التي حصل عليها جيش الاحتلال


أمام الفشل الإسرائيلي في اجتثاث المقاومة في جنين، والتقييم الذي يُجمع الكتّاب الإسرائيليون عليه للعملية العسكرية باعتبارها «قرص أكامول لمرض عضال»، وفق ما عنون الكاتب الإسرائيلي، آفي يسخروف، مقاله في «يديعوت أحرونوت»، فإن السلوك الميداني الإسرائيلي في الوقت الحالي يتّجه إلى تكرار العمليات الجزئية، لتنفيذ الهدف الكبير، المتمثّل في المحافظة على مكتسبات 15 عاماً من تدجين المجتمع وحصره في همومه الذاتية، وعزله عن الهموم الوطنية الجامعة. بتعبير أوضح، يريد الاحتلال أن يبقي على وضعية الشباب المقاوم، على أنه استثناء في المشهد «الضفاوي»، الذي يراد أن تغلب عليه دائماً صورة دخول الآلاف من الفلسطينيين إلى مدن العمق للعمل، وكأن «الأمر لا يعنيهم»؛ إذ إن انخراط الكتلة المجتمعية الأكبر من المدنيين، في احتضان المقاومة ورعايتها، يعني إعادة إنتاج نموذج الضفة الغربية ما قبل العام 2006، وهدم كلّ «منجزات التغريب» التي تحققت برعاية أميركية طوال الأعوام الخمسة عشر الماضية.
بالنتيجة، تنتظر مخيم جنين عمليات أخرى، سترتكز في معطياتها على تحليل المعلومات التي حصل عليها جيش الاحتلال في العملية الأخيرة، من المواطنين الذين اعتقلهم أو استجوبهم ميدانياً، والتي ستتمحور حول مسائل من مثل نوعية الأسلحة، وتكتيكات القتال، وطرق إدارة الميدان واستخدام السلاح. على أن هامشاً كهذا، وإن بدا مهماً من الناحية العسكرية، فإن في مقابله ما تخفيه المقاومة من مفاجآت وتقديرات وتحليل مقابل لأداء جيش الاحتلال، والذي سيكون من شأنه أن يحبط المساعي الإسرائيلية. وفي هذا المجال، يؤكد مصدر مقرب من «كتيبة جنين» إن الإدارة الميدانية في المخيم رشّدت في الكشف عن أدواتها، وأبقت الجزء الأكبر من خططها العسكرية خبيئاً إلى حين الضرورة.



«القسّام» يضرب في «كدوميم»: 29 قتيلاً إسرائيلياً منذ بداية العام
مع المستوطن القتيل أمس، قرب مستوطنة «كدوميم»، يبلغ عدد القتلى الإسرائيليين في عمليات المقاومة، منذ بداية العام، 29، في رقم لا يلبث أن يرتفع يوماً بعد آخر. وفي تفاصيل عملية الخميس، فإنّ منفّذها كان يقود سيارته قرب المستوطنة، ثم نزل منها، وشرع في إطلاق النار على إسرائيليَّين اثنين في موقعين مختلفين، قريبين من مستوطنة كدوميم، ما أدى إلى مقتل واحد وإصابة الثاني إصابة بليغة. وبعد إطلاق النار، غادر المنفّذ في اتجاه المزارع القريبة من «كدوميم»، قبل إرسال القوات الأمنية الإسرائيلية إلى مكان الحادث، حيث تمّ تحديد موقع المنفّذ، وقتله. وفي بيان، أعلنت «كتائب القسّام»، الجناح العسكري لحركة «حماس»، مسؤوليتها عن العملية، مشيرةً إلى أن المنفّذ هو الشهيد أحمد ياسين هلال غيظان، من قرية قبيا غربيّ رام الله. وأكّد البيان أن الهجوم أتى «كردٍ سريع على عدوان الاحتلال وتغوّله على أهلنا وشعبنا في مخيم جنين». وحذّرت «الكتائب»، وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، من أن «القسّام كاد أن يطرق عليك باب بيتك»، إذ يسكن الوزير في «كدوميم»، حيث وقعت العملية.
(الأخبار)