يتجاوز الانتصار في جنين الجدل التكتيكي والعسكري الذي دار بين قوات الاحتلال والمقاومة في مخيم جنين ومحيطه، ويتخطّى قدرة المقاومة الفلسطينية على الحفاظ على قدرة وقابلية المقاومة واستمراريتها. يكمن البعد الأوّل للانتصار في شكل المناورة العسكرية التي خاضها الاحتلال في جنين: تحرّك ثقيل، وغطاء جوّي يسبق الدخول البري، وتجنّب المواجهة المباشرة مع المقاومين، واستخدام سلاح القنّاصة بشكل واسع. أراد الاحتلال إجراء مناورة برّية صغيرة من دون معارك أو اشتباكات تعرّض الجنود للقتل، أو رغبَ في معركة بلا مجازفات أو مغامرات. وقد أقحم في المعركة هذه ألفَ جندي، على الرغم من أن الجنود أصبحوا بعد ساعات عدّة أهدافاً ثابتة يعانون من تراخٍ.
وهنا يكمن النجاح الأهم للمقاومة؛ أي أنها نجحت في تجنّب توفير أهداف سهلة للطيران والقناصة. بمعنى آخر، استطاعت المقاومة في تمركزها الدفاعي وانتشارها تجنّبَ المجازفات التي كانت ستتيح للعدو احتماليةَ تحييدها بجهود ضئيلة من جانبه. وقد انتقت بعناية أيضاً أوقات الاشتباك مع القوات المتسلّلة بطريقة تعطيل قدرتها على استخدام سلاح الجو والقناصة، أو على الأقل تجنّب تدخّل سلاح الجو من دون المجازفة بحياة جنوده القريبة من مواقع إطلاق النار للمقاومين، أو تطوّر المعركة ليصل إلى حيث يتأثّر سكّان المخيم. ببساطة، سعت المقاومة إلى تقريب المسافات بعمليات الاشتباك الدفاعية والمتفرّقة والقليلة، بينما سعت قوات الاحتلال إلى الحفاظ على مسافة آمنة.
لا يمكن النظر إلى عدد الجنود على أنه أمر اعتباطي في تصميم العملية البرّية. فمن الواضح أنه لو امتلك الفرصة لإنجاز المَهمّة في قلب المخيم واعتقال المقاومين واغتيالهم لكان فعل. فإقحام ألف جندي يدلّ على أن في تصميم العملية نفسها كان هناك سيناريوات عدّة تضمّنت ضرورة تفعيل هذا النوع من القوة. نعم، حاول العدو التخفيض من «التوقّعات» حول العملية، ولكنّ المعطيات الميدانية ساهمت في قراره الانسحاب من دون إتمام تصفية المقاومة أو إضعافها بشكل لا تعود معه قادرة على العودة بالقوة نفسها. بل إن عدد الجنود وتوظيفهم بهذا الشكل، كان أيضاً استعراض قوّة يهدف إلى هزيمة المقاومة قبل لقائها. افتتح العدو الجولةَ بقصف جوي، وأقحم لواءً عسكرياً في العملية، ظنّاً منه أن هذا النمط من الدخول يفضي إلى هلع وخوف يؤدّي بالمقاومة إلى توفير الأهداف السهلة، ولكن المخطط لم يكن ناجحاً بمعنى مطلق.
صمدت المقاومة ولم تهلع، ونجحت في الحفاظ على استمراريتها، وكشفت تذبذبَ الإسرائيلي في خوض المعارك البرّية، وتميّزت بقدرتها على اختيار مسافة المجازفة بالاشتباك وموعدها. ومع ذلك، يجب أن نشير إلى أن الصراع الأهم الذي تحقّق لم يكن في المعركة نفسها، وإن كانت المعركة شرطاً أساسياً لتحقيقه.
يسكت من يعوّل على قدرة الاحتلال على إنهاء ظاهرة المقاومة، وهنا في الحقيقة انتصاران، الواحد شرط الآخر: انتصار تكتيكي نسبي نجحت فيه المقاومة، وانتصار سياسي رمزي تقدّمه لنا سواعد المخيّمات


في الضفة الغربية، توجد تناقضات داخلية وطبقية وسياسية عديدة وكثيرة. يمكننا القول إن جزءاً من المجتمع الفلسطيني وقع في فخ «حب الخسارة نفسها»، أو ما يسمّى في علم النفس التحليلي «ملنخوليا». في هذا التموضع الشعوري ما يعارض الفعل والفعالية السياسية بشكل أساسي، فهو شعور يرغب في إدامة حالة الخسارة نفسها كتعويض عن فقدان الأفق نحو فلسطين، بل يصبح الانغماس في رفض الفعالية السياسية، وتعزيزه مادياً وسياسياً، الشغلَ الشاغل لعديدين. تكمن خطورة هذا التموضع الشعوري، المدعّم بأدوات اقتصادية وسياسية وطبقية، في أنه يتيح استمرارية «التنسيق الأمني» وما يترتّب عليه من مكاسب مادية وسياسية للنخب الحاكمة. لذا، كان تحرّك المقاومة في نهضتها الأولى قبل عامين يهدف إلى إعادة بناء أفق فلسطين مرة أخرى، وأن يتم توجيه جهودها نحو «صحصحة» المجتمع الأوسع كما ظهر في أحاديث المقاومين أنفسهم، ولكي تخرج الناس من هذا التموضع الشعوري المريح مؤقتاً، والذي يشارف على قبول ضمني بالموت الاجتماعي والسياسي، وتدعمه مؤسسة رسمية بواسطة القمع المتعدّد الأوجه.
اعتاد المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية على ما لا يمكن التعوّد عليه، بل يمكن القول إنّ البعض، أو كثيرين، اعتادوا الاعتياد. فهو يقف أمام حرق القرى من دون القدرة الجادّة على المجابهة، ويقف أمام احتماليات عودة التهجير المكثّف من دون صياغة سياسية وعسكرية دفاعية لمواجهته. في لبّ المسألة - إذاً - هذه القدرة الهائلة على الاستمرار بالحياة اليومية القائمة على الاستهلاك والامتيازات والروتين، رغم أن النهاية تلوح في الأفق.
وهنا يحضر انتصار جنين بقوة، إنه يكشف مواضع ضعف الاحتلال وحلفائه، انتصار يخرج من حارات ومخيمات المقهورين، ومن سواعد الطبقات الاجتماعية التي تمتلك ما تخسره ولكنها مستعدّة رغم ذلك أن تقدّمه. ويسكت من يعوّل على قدرة الاحتلال على إنهاء ظاهرة المقاومة، وهنا في الحقيقة انتصاران، الواحد شرط الآخر: انتصار تكتيكي نسبي نجحت فيه المقاومة، وانتصار سياسي رمزي تقدّمه لنا سواعد المخيّمات.
رغم ما سبق، فإنّ قصة المخيم لم تنته، بل لربما أيضاً، والأهم، ثمّة ما يلوح خارج المخيّم. يعود العدو من حملته في جنين ليروّج لبعض الإنجازات بما فيها بعض الاعتقالات والاغتيالات التي حقّقها في العملية الأخيرة، وما اكتسبه من معرفة حول شكل الأسلحة المتاحة ونوعها ومصادرة البعض منها، وعلى تحرّكات وشكل التموضع الدفاعي للمقاومين في العملية نفسها. يعود ليتعلّم دروس المعركة، دروس ستساهم في صياغة شكل التدخّلات العسكرية القادمة. ويلوح أيضاً تعاظم السخط الاجتماعي على قيادات كانت تأتي لـ«العزاء» أو «التضامن» بعد الحدث في قرية ترمسعيا وجنين، تعاظم للهوّة التي تسارع من عمليات الانفكاك الاجتماعي عن القيادات.