جنين | مساحته 385 دونماً، وعدد سكانه 17 ألف لاجئ فلسطيني، قذفت بهم النكبة من 66 مدينة وقرية فلسطينية مهجرة عام 1948. أمّا التاريخ النضالي لمخيم جنين، فقد بدأ بمجموعات فدائية عام 1955 عبر «مكتب 23» في دمشق، ومن ثمّ مجموعات فدائية في أوائل الستينيات، ثمّ خلايا فدائية بعد احتلال عام 1967 إلى عام 1987، وانتفاضتين ملحميتين تجلّت الثانية منهما بالمعركة الشهيرة عام 2002، والتي أسقطت من المحتل 28 ضابطاً وجندياً قتيلاً وإصابة 146 آخرين جرحى باعتراف العدو، وارتقاء 58 شهيداً في تلك المعركة، من بينهم 29 مقاتلاً طيلة أيام المعركةالـ 12. أمّا مجموع شهداء المخيم حتى الآن فقد تجاوز الـ 450 شهيداً، من بينهم 70 في العام ونصف العام الماضيين فقط.

- المشهد الأول -
قبل المعركة الأخيرة بيوم، استشعر المقاومون أنّ الاحتلال يحضّر لهجمة واسعة على المخيم، بدأ الاستعداد، ومنه كان هذا المشهد: ستة شبان بأعمار متفاوتة، ثلاثة أشقاء منهم يزرعون عبوات على الطرف الأيسر للشارع الرئيسي في المخيم، يقابلهم على الجانب الأيمن ثلاثة أشقاء يفعلون الفعل نفسه، المهم أن الثلاثة الآخرين أشقاء شهيد ارتقى قبل أيام.

- المشهد الثاني -
قبل بداية القصف الجوي بدقائق، نقطة الحبش تعج بالمقاتلين، اثنان منهم في داخل البيت، أحدهم يتابع شاشة المراقبة للشوارع القريبة، والباقون خارجه، بعضهم ترك المكان أو حاول، فجأة اخترق صاروخ سقف النقطة، تلاه آخر، ارتقى سميح وأصيب أشرف بجروح خطيرة، ثم توالى القصف على نقاط الرباط في المخيم «طورا بورا» و«الغسالات» و«06» و«الفلوجة» و«الزرعيني» و«الجبل» و«النور» و«الأنصار» و«الشجرة» و«المطاحن»، عُبّئت المخازن، وسُحبت الأقسام، وانتشر الحماة في كل الأزقة، أجهزة الإرسال لا تهدأ، المعنويات أعلى من طائراتهم المسيَّرة، الأهالي بالآلاف خرجوا إلى الشوارع، وبدؤوا فتح أبوابهم الرئيسية والخلفية لمرور المقاتلين، مكبّرات الصوت في المساجد تطلق تكبيرات العيد، فالعيد هنا لم ينته بعد، بل إنّ موعده الآن.

- المشهد الثالث -
بعد ساعة من محاولات التقدّم إلى قلب المخيم على أكثر من محور، الجرافات الضخمة تحاول تمهيد الطريق الرئيس المار من خلف مشفى جنين «دوار الحصان» إلى قلب المخيم من الجهة الشرقية الشمالية. توغّلت الجرافة وسط الإطلاق الكثيف للنيران من الأرض والجو عشرات الأمتار، فتشجّعت سيارة الجيب العسكرية المصفحة للدخول على رأس رتل من الآليات العسكرية، وقبل أن تتقدّم مسافة عشرين متراً، كانت عبوة ناسفة كبيرة في انتظارها، فمزقتها، وأمطرها المقاومون بوابل من الرصاص والعبوات اليدوية، فهاجت الآليات من خلفها وتقهقرت إلى الخلف، فعادت الجرافة لسحب الآلية المدمرة وسط تكبيرات المقاتلين والمواطنين.

- المشهد الرابع -
بعد عشر ساعات على المعركة المحتدمة على كل المحاور، خمسة مقاتلين من أبطال وأشبال الكتيبة في وسط شرق المخيم، مقاتل منهم بلغ العشرين والأربعة الباقون لم يتجاوزوا الخمسة عشر عاماً، تقدّم أحدهم وفجّر عبوة كبيرة في الجرافة التي تعمل على تجريف طلعة «عبلة» المؤدية إلى حارة الدمج، والفتيان الثلاثة الآخرون أمطروها بالقنابل اليدوية محلية الصنع، فتقهقرت. لم يلتفت الفتية الثلاث إلى وجود القناصة في مسكن لا يبعد عنهم ثلاثين متراً، أطلقوا النار على مجدي، وثنّوا بالقنص على ابن عمّه كمال، وأكملوا على ثالثهم علي. مجدي ارتقى وعلي أيضاً، أمّا كمال، فرغم جراحه القاسية التي اخترقت مقدمة رأسه، خلع قميصه وحاول ربط جراح رقبة ابن عمّه مجدي، تقدّم العامر وهو يطلق الرصاص لسحبهم فارتقى هو أيضاً. ثلاثتهم تراكموا فوق بعضهم البعض، ورابعهم العامر في الجهة المقابلة، كانوا مثل مظلة ملوَّنة عصفت بها الريح. كمال لا يزال قلبه ينبض بالحياة، لكن في أقسى حالات الخطورة.

- المشهد الخامس -
بعد 12 ساعة من العدوان، القصف المجنون من المسيرات في كل مكان، خمسة عشر مقاتلاً في أعلى حارة «السمران» ينصبون كميناً محكماً لجيش الاحتلال القادم من الجابريات وحارة «أبو العزمي» و«الخبيزة» نزولاً نحو وسط المخيم عبر حارة «السمران»، اقتربت القوات المحتلة منهم، أصبحت في مرمى النيران، فتحوا النار على لحن التكبيرات، ذعر الجنود وارتموا أرضاً ولاذ بعضهم خلف الجدران. الاشتباك الشديد دام أكثر من عشر دقائق، كانت مدة تجميع عدد كبير من المسيرات المذخرة التي صبّت جام صواريخها عليهم، فأصيبوا جميعاً بجروح متفاوتة، ونقلوا، بعد ربع ساعة من المقاومة رغم جروحهم، إلى المشافي عبر سيارات الإسعاف التي هرعت إلى المكان رغم غزارة النيران والصواريخ.

- المشهد السادس -
بعد 14 ساعة من المعركة، قوات كبيرة تتقدّم بهدوء من وسط الجهة الشرقية الوسطى نحو حارة الدمج، بعد ثمانين متراً، وفي قلب تلك الحارة، يوجد مسجد الأنصار المكون من ثلاث طبقات، هناك ثلاثة طرق تقع شرق المسجد، إحداها نزولاً إلى حارة «الحواشين»، والثانية شرقاً إلى حارة «الصباغ»، والثالثة جنوباً إلى منطقة الجبل، فجأة تبدّد الصمت برصاص متواصل وكثيف من عدة جهات نحو هذه القوة، الطائرات المسيّرة تبدأ قصف أماكن المقاتلين. المقاتلون تمكنوا من إسقاط إحداها، صراخ الجنود يكاد يعلو على صوت الرصاص والعبوات المتفجرة، النيران تندلع في المنطقة، المعركة استمرت نحو الساعة، استدعيت خلالها ثلاث طائرات «أباتشي»، تأكّد المقاتلون من إسقاط الجرحى والقتلى في صفوف القوة المهاجمة، فانسحبوا إلى داخل المسجد، القوة المحتلة المهاجمة انكفأت بخسائرها للخلف، وجاءت ثلاث طائرات نقل هليوكبتر عسكرية لنقل القتلى والجرحى إلى مشافي «هعيمق» و«رامبام» في حيفا، بينما تقدّمت قوة معززة مرة أخرى، فحصل قتال عنيف، لجأ خلاله المقاتلون إلى داخل المسجد، فأخذت مكبرات الصوت تطلب منهم تسليم أنفسهم وإلا فسيقومون بقصف المسجد عليهم. ساد الهدوء لساعة تقريباً، ضُرب المسجد بخمسة صواريخ كتف، ثم اقتحمت قوة خاصة المسجد فوجدت نفقاً تحته مرَّ فيه المقاتلون إلى حيٍّ آخر.

- المشهد السابع -
في الاعتقالات، قوات الاحتلال دهمت البيوت، روَّعت أهلها، دمرت محتوياتها، أجرت تحقيقاً ميدانياً مع سكانها، اعتقلت بعض شبابها وشيوخها، شاب لم يتجاوز من العمر 16عاماً، اعتُقل مع رجل مسنّ، أدخل المصفّحة، الجنود يحاولون إهانة ودفع الشيخ المسنّ لركوب الآلية، صرخ الفتى بهم وشتمهم وأهانهم وتحداهم رغم تقييده وتعصيب عينيه لتصرفهم الفظ مع المسن، فبهتوا. عندما وصلت بهم الآلية إلى حيث مركز التحقيق قرب حاجز الجلمة، أخذوه جانباً ونكَّلوا به في محاولة لترميم كبريائهم المهان.

- المشهد الثامن والأخير -
في الساعة الخمسين من المعركة، الأخبار تفيد بقرب الانسحاب، عدد من المقاتلين ينجح في الإفلات من الحصار وينصب كمائن للقوات التي تهم بالانسحاب من شوارع المدينة، قوة وقعت في فخ عبوة جانبية كبيرة، انفجرت في آلية محصنة فدمرتها، وقتل فيها جندي من وحدة «أغوزة» الخاصة التابعة لهيئة الأركان، فأعادت الذاكرة لكمين زقاق «أم راضي» في نيسان 2002، والذي قتل فيه 13 ضابطاً وجندياً من نفس الوحدة.

خاتمة
انتصر المخيم، وبانت سوءة المحتل، وظهرت هشاشة قوته الاستعراضية، وفشلت أهدافه، وتيقّن الجميع أن ترميم حالة الردع لجيشه أصبح مستحيلاً، فكل محاولة، وعلى أي ساحة أو جبهة، تظهر بما لا يدع مجالاً للشك أنه جيش يتداعى ويتقهقر.