رام الله | حطّت طائرة أردنية تقلّ رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، أمس، في مدينة جنين شمال الضفة الغربية المحتلّة، في زيارة ترتبط بتداعيات المواجهة الأخيرة التي خاضتها المقاومة مع جيش الاحتلال هناك، والحالة النضالية المتصاعدة في المخيم، الذي تحوّل إلى أيقونة للمقاومة في الضفة. وألقت تداعيات العدوان الأخير على المخيم، سواء لناحية حجم الدمار والخراب اللذَين خلّفهما الاحتلال، أو استشعار المواطنين بأنهم واجهوا الهجمة الإسرائيلية وحدهم، واستيائهم كذلك من سلوك السلطة وأدائها، وتحديداً أجهزتها الأمنية خلال فترة العملية العسكرية الإسرائيلية، بظلالها على السلطة، ودفعت رئيسها المُقلّ في زياراته للمحافظات والمدن، إلى زيارة جنين، بعدما سبقه العديد من المسؤولين السياسيين والأمنيين تمهيداً لقدومه.وتأتي هذه الخطوة بينما باتت السلطة، ومن خلفها حركة «فتح»، أكثر إدراكاً لتراجع شعبيتهما في أوساط الفلسطينيين، وتحديداً في مدينة جنين ومخيمها، وهو ما دلّت عليه بوضوح حادثة طرد وفد «اللجنة المركزية» أثناء تشييع شهداء المخيم، والتي جرى تطويقها لاحقاً، إضافة إلى عشرات حالات التصادم ما بين الأجهزة الأمنية والمواطنين والمقاومين، والتي كان آخرها اندلاع مواجهات تخلّلها إطلاق قنابل الغاز، ما بين الشبان والعناصر الأمنيين عقب انسحاب جيش الاحتلال من المخيم إثر عدوانه الأخير. وبالتالي، فإن السلطة تطمح إلى ترميم هذه الشعبية من خلال الزيارة، وربّما إلى فتح صفحة جديدة مع المجتمع المحلّي في المحافظة، ودعم الأجهزة الأمنية في المدينة. يُضاف إلى ما تَقدّم أن المقاومة استطاعت، في أعقاب معركة «بأس جنين»، تعزيز مكانتها، بخروجها منتصرةً من تلك المعركة، ومحافظتها على الحالة النضالية التي شكّلها المخيم، مدعومةً ببيئة شعبية حاضنة وداعمة لها، ولعلّ هذا ما شجّع السلطة على التفكير في استثمار الحالة المُشار إليها، وخاصة أن مخيم جنين حظي عقب العدوان باهتمام سياسي وإعلامي وحقوقي دولي، وزارته وفود أميركية وأوروبية وإغاثية وحقوقية.
وفي هذا الإطار، يرى أستاذ العلوم السياسية في «الجامعة العربية - الأميركية» في جنين، أيمن يوسف، في تصريح إلى «الأخبار»، أن «زيارة عباس لجنين تأتي في سياق محاولة التعامل مع التحولات التي تشهدها المحافظة، بعدما باتت جنين ومخيمها نموذجاً لنضال المقاومة، في وقت تدرك فيه السلطة أن الخيارات التفاوضية مع إسرائيل باتت مسدودة في ظلّ حكومة اليمين الحالية، وبالتالي فهي تعتقد أنها بحاجة إلى روافع ميدانية وإلى شكل من أشكال النضال في المخيم». ويشير يوسف إلى أن «هناك ترهّلاً في بنية السلطة، وبالتالي الزيارة قد تكون لدعم معنويات الوجود الفلسطيني الرسمي في المدينة، ومحاولة تنظيم العلاقة ما بين الأجهزة المختلفة، ومتابعة قضية الإعمار»، مضيفاً إن «من غير المنطقي أن لا تزور القيادة الفلسطينية جنين، في ظلّ توافد الوفود الأجنبية الأوروبية والأميركية والحقوقية والإعلامية، ولذلك قد تكون الزيارة محاولة للاستثمار السياسي في نضالات المدينة التي تُعدّ تاريخياً من القواعد المتقدّمة للثورة والعمل الميداني العسكري والشعبي». ويتابع أن «الزيارة تخدم الجهود الديبلوماسية للسلطة، التي تحتاج إلى تحركات ووجود ميداني على الأرض لكي تضغط من خلاله على إسرائيل والعالم، وخاصة في ظلّ تراجع الاهتمام العالمي بالقضية الفلسطينية».
تثير زيارة عباس تساؤلات حول النهج الذي ستسلكه السلطة في التعامل مع مخيم جنين في المرحلة المقبلة


وتثير زيارة عباس تساؤلات حول النهج الذي ستسلكه السلطة في التعامل مع مخيم جنين في المرحلة المقبلة، على ضوء ضغوط الاحتلال عليها للقيام بدورها هناك، والتسهيلات التي تنوي حكومة العدو تقديمها لها من أجل تقويتها ومساعدتها على استعادة هيبتها. وفي هذا الإطار، يستبعد يوسف احتمال وقوع تصادم بين الأجهزة الأمنية الفلسطينية والمقاومين، «وإنْ حدثت بعض الوقائع هنا وهناك، فهي حالات معزولة يتمّ تطويقها»، كما يقول، عازياً ذلك إلى أن «إسرائيل ليست معنيّة بأن تكون هناك سلطة قوية، وهي في البعد الأمني لا تعتمد على أحد ولا تتشاور مع أحد، ومن مصلحتها أن تبقى السلطة ضعيفة حتى تدخل إلى أي منطقة تريدها، وهذا جزء من فلسفة وعقيدة جيش الاحتلال القائمة على العدوان المستمر على الشعب الفلسطيني». ويخلص إلى أن «القيادة السياسية الفلسطينية تحاول أن تستثمر الحالة النضالية لمدينة جنين ومخيمها وبعض المناطق الأخرى، حتى تكون لديها مكاسب سياسية في ظلّ إدارة أميركية لا تحرّك ساكناً وحكومة يمينية متطرّفة»، مضيفاً إن أحد أسباب زيارة عباس هو «تحسين شعبية السلطة وفتح، ورفع معنويات الأجهزة الأمنية والمحافظة والمؤسسات الرسمية العاملة».
وفي كلمة له في مخيم جنين، قال عباس: «جئنا لنقول إننا سلطة واحدة ودولة واحدة وقانون واحد وأمن واستقرار واحد، وكلّ من يعبث بوحدتها وأمنها وأمانها لن يرى إلّا ما لا يعجبه»، متوعّداً بـ«قصّ اليد التي ستمتدّ إلى وحدة الشعب وأمنه وأمانه من جذورها». وأضاف: «جئنا لنتابع إعادة إعمار مدينة جنين ومخيمها الذي صمد في وجه العدوان وقدم التضحيات في سبيل الوطن»، متابعاً: «لا بدّ أن نتحدّى كلّ من يريد أن يهزمنا وأن يعتدي علينا». لكن لا يبدو أن الزيارة ستغيّر شيئاً من المزاج الشعبي في مخيم جنين؛ إذ ظهر واضحاً أن الأهالي في المخيم لا يعوّلون على هذه الزيارة ونتائجها، فيما موقفهم محسوم بشكل غير مسبوق في دعم المقاومة والمقاومين، ولعلّ هذا ما تجلّى بوضوح في هتافات الأطفال والفتيان بالتأييد لـ«كتيبة جنين» في خلال الزيارة.
هذا التراجع الواضح في شعبية السلطة ونفوذها في جنين والضفة، كان «كابينت» الاحتلال قد ناقشه أخيراً، واتّخذ على خلفيته قرارات لتقوية السلطة ومنع انهيارها. وتبنّى المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغّر، الأحد الماضي، مقترح رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، بالعمل على منع انهيار السلطة، مقابل عدّة شروط؛ في مقدمتها وقف «التحريض» في الإعلام الفلسطيني والمنظومة التعليمية، والامتناع عن توجيه أيّ اتهامات إلى إسرائيل في المحكمة الدولية والمنظمات الدولية، وقطع الرواتب عن عائلات الشهداء والأسرى، ومنع البناء في مناطق (ج). في المقابل، سيقدّم نتنياهو، بالتعاون مع وزير الدفاع يوآف غالانت، مقترحات لتسهيلات لمصلحة السلطة، من بينها إقامة منطقة صناعية قرب الخليل، ومنح قروض ميسّرة، وجدولة الديون الفلسطينية، وتقديم إعفاءات على الوقود، وتقديم موعد تحويل عائدات الضرائب، وكذلك زيادة ساعات العمل على معبر الكرامة، وإعادة تصاريح كبار الزوار إلى مسؤولي السلطة.