كان زفافي يوم 10 نيسان 1982، وكان سكني في منطقة الأوزاعي ملاصقاً للمدرج الغربي لمطار بيروت الدولي. وفي الأسبوع الأوّل بعد الزواج، دارت أحداث بين تنظيمات مسلحة، اضطررنا خلالها إلى التزام المنزل والاكتفاء بما هو موجود فيه، كنت أسكن أنا وأخي وزوجتانا الشقيقتان. وفي بداية شهر أيار، تعرّض والدي لحادث إطلاق نار، أصيب الشريان الرئيسي بفخذه، خلال تعرّضه والصراف الذي كان يعمل معه لعملية سطو في شارع الحمرا، أوقف والدي سيارة أجرة نقلته إلى طوارئ مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، حيث غاب هناك عن الوعي. وقد نجا من إصابته بأعجوبة. اضطررت حينها إلى الانتقال وزوجتي إلى منزل أهلي في منطقة برج أبي حيدر كي أقوم برعاية والدي يومياً.
وبعد تماثله للشفاء، عدت إلى بيتي وبقيت فيه حتى وقع العدوان الصهيوني على لبنان في 6 حزيران 1982، كنت في ذلك اليوم مع زوجتي في سيارة أجرة، ركبناها من منطقة «المزرعة» قاصدين منزلنا في «الأوزاعي»، وما إن وصلنا إلى ما قبل مستديرة جسر الكولا، حتى اهتزت المنطقة، ودوّت عدة انفجارات، وصوت الطيران الحربي الصهيوني يملأ الأجواء. صرخت بالسائق أن يتوقف جانباً، خرجت وزوجتي من السيارة، وركضنا نحو «المزرعة» لأن أول استهدافات العدو هي الجسور والطرقات لمنع التواصل. التفتّ خلفي فإذا بدخان القصف يغطي مبنى المدينة الرياضية، توجهنا إلى منزل أخي في بداية طلعة «برج أبي حيدر»، لالتقاط الأنفاس، وكانت زوجتي ترتجف من الخوف، فقد كانت تجربتها الأولى مع العدو الصهيوني، فهي قادمة من دمشق. مكثنا قليلاً، وإذا بصديق يمر بسيارته قرب منزل أخي، وهو جارنا بالسكن، فركبنا معه، وانطلق بنا باتجاه «الرملة البيضا» نزولاً باتجاه منطقة «السلطان ابراهيم» أي في الخط الموازي لأوتوستراد المدينة الرياضية التي بدأ يخفّ حولها دخان الحرائق، وبدأ يظهر حجم الدمار الذي أصابها.
بقينا في الأيام الأولى من العمليات الحربية في منطقة الأوزاعي، إلى أن توسع الهجوم ووصلت القوات الصهيونية إلى مشارف «خلدة» جنوبي بيروت، انتقلنا حينها إلى منزل أهلي، (كان شهر عسل ممتعاً). تذكرت حينها ما كنت أفعله، وأنا لم أتجاوز السنة، عام 1958 حين كانت تأتي لزيارتنا خالة والدي، وقبل أن تستريح، كانت تسألني «شو يا تيتا شو الأخبار؟ فأقول لها: طا بوم» فتسرع بالرحيل، لأنه سرعان ما يدوّي أزيز الرصاص، إنها تنبؤات وحظ.
في منزل أهلي حشرنا أنا وإخوتي وعائلاتهم، أكثر من 20 شخصاً بين كبار وصغار. كان الجو مرعباً، قصف طاول كل الأمكنة، وخاصة عندما توقف العدو على بوابات العاصمة، فارضاً حصاراً قاتلاً، منع خلاله دخول المواد التموينية والخضر، وحتى الأدوية.
هدير الطيران الحربي يصمّ الآذان، وقذائف البوارج البحرية والمدفعية الثقيلة تتساقط فوق رؤوس البشر والحجر. دب الرعب في قلوب الأهل، كنت كباقي الشباب في عمري أقوم بواجبي الوطني في مساندة ودعم صمود أهلنا في مختلف مناطق بيروت، والسهر على أمنهم وتأمين الحاجيات الضرورية لهم، وتجهيز الملاجئ بكل ما هو ضروري. كان والدي يؤنّبني كيف أترك زوجتي وحيدة.
كان هذا الجهاز مرغوباً لأن بطولة كأس العالم في كرة القدم منقولة مبارياتها على شاشة التلفزيون


تحدثت إلى زوجتي مطمئناً وقلت لها «اسمعيني جيداً، أنا لن أقف مكتوف اليدين أمام ما يحصل، ولن ألازم البيت، إنه واجبي وواجبك أنت أيضاً. هل أنت مستعدة؟» سرت كلماتي كأنها سحر، إذ انتفضت زوجتي وقالت: «روحي ليست أغلى من روحك وروح أهلنا المساكين، أنا أيضاً جاهزة للقيام بدوري في معركتنا هذه». فخرجت معي، وشاركتني ما كنت أقوم به من خدمة للناس، ولما رآنا والدي قال «جوزناه ليعقل جنن مرته».
ذهبنا أنا وزوجتي إلى شارع «جاندارك» في منطقة الحمرا، حيث مبنى «اللاهوت»، فقد حوّله «الهلال الأحمر الفلسطيني» إلى مستشفى ميداني لنقل الجرحى إليه بعد إجراء اللازم لهم في المستشفيات، فتقوم مجموعة من المتطوعين والمتطوعات بإشراف أطباء وممرضين بالاهتمام بهم ورعايتهم حتى تتحسن جروحهم وإصاباتهم.
كانت بداية زواجي برغداء على هذه الشاكلة، حرب وحصار، وعمل تطوعي، انضم إليه العديد من أفراد العائلة والأصدقاء والرفاق. شكلنا مجموعة من الصبايا والشباب مهمتها الأساسية استقبال الأهالي الهاربين من جحيم القصف والقتل، وتأمين أماكن للإيواء، وتأمين الحاجيات الضرورية لهم من فراش وحرامات ووسادات وأغطية ومواد تموينية وحليب للأطفال وأدوية ضرورية، رغم صعوبة ذلك بسبب الحصار القاتل الذي كانت تمارسه قوات الاحتلال على مداخل بيروت، والأعداد الكبيرة من أهاليها واحتياجاتهم الطبيعية غير المتوفرة. إلا أننا استطعنا، عبر أصدقاء لنا في الجزء الآخر من العاصمة، من حلّ بعض هذه الأمور، إذ كانوا يحملون ما يستطيعون، ويخفونه عن عيون الحواجز، وإذا اضطرّهم الأمر كانوا يرشُون عناصر الحواجز، بمن فيهم عناصر قوات الاحتلال.
زارني في صباح أحد الأيام، في منزل أهلي، صديق، وهو مقاتل يتمركز مع مجموعة بالقرب من منزلي في منطقة الأوزاعي، وكان يتفقد البيت بين الحين والآخر. قال لي: «بيتكم تعرض لمحاولة سرقة من لصوص الحرب، فقد وجدنا باب البيت مفتوحاً، وهناك أجهزة وأدوات كهربائية تم تحضيرها على مقربة من الباب، وعلى ما يبدو أن القصف باغت اللصوص، فتركوها في مكانها للعودة وحمل ما يستطيعون. إذا استطعت تأمين سيارة لحمل ما يمكن نحن في المنطقة هناك». صباح اليوم التالي، توجهت أنا وابن عمي شقيق زوجتي، والذي كان زفافنا معاً في اليوم نفسه، بسيارته، وسلكنا طريق السفارة الكويتية نزولاً حتى «الأوزاعي»، مررت على صديقي فأخبرني رفاقه أنه في جولة في المنطقة، فقلت لهم «أنا متوجّه إلى بيتي في حال عودته، وصلنا منزل ابن عمي القريب لمنزلنا، مددنا الشراشف لنجمع فيها ما نستطيع، وبعدما حمل ما يحتاج إليه، توجهنا إلى منزلي حيث كان باب البيت مثبتاً بقطعة خشبية حشرت من الداخل ليصعب فتحه. دخلنا البيت ووجدنا القطع الكهربائية التي كانت مجهزة قرب الباب، وقد وزعها صديقي تحت أثاث المنزل في حال عاد اللصوص كي يعيقهم. لكننا لم نجد التلفزيون الصغير الأبيض والأسود، الذي كان يعمل على بطارية السيارة، كان هذا الجهاز مرغوباً لأن بطولة كأس العالم في كرة القدم منقولة مبارياتها على شاشة التلفزيون، وبينما كنا نلملم ما يمكن، إذا بصديقي ورفاقه في باب البيت، هنأتهم بالسلامة، وأخبرتهم عن التلفزيون فقالوا، الظاهر الشباب رياضية، وبدهم يتابعوا كأس العالم».
أنهينا ما أتينا من أجله، ودعانا رفيقي إلى حيث موقعهم لتناول طعام الفطور معهم، التفت إليّ وسألني «أيّ طريق سلكتم إلى هنا؟ فأخبرناه، تجمّد بأرضه صارخاً يا لحظّكم، لقد نجوتم من موت محقق، فبالأمس تم زرع ألغام في المنطقة على طول الطريق، لتنفجر في جنود الاحتلال، والمنطقة خالية تماماً من السكان والمارة، على كل، الآن اسلكوا هذا الطريق الداخلية».
وصلنا إلى حيث موقع صديقي ورفاقه، وكانوا قد حضّروا «ترويقة» مرتبة: بيض مقلي وحمّص بطحينة ولبنة وأجبان معلبة وطبعاً ابريق الشاي. تناولنا فطورنا، والطيران الحربي يرعد ويزبد في الفضاء، شكرنا رفاقنا وعدنا أدراجنا إلى بيت أهلي.
لم تسقط بيروت، صمدت وقاتلت وكبّدت العدو خسائر فادحة، وخاصة في منطقة خلدة وبوابة المتحف التي عجز العدو الصهيوني عن عبورها بفعل صمود المقاتلين وبسالتهم.