جاء اجتماع القاهرة بعد فشل الوساطة السعودية - الأميركية وتلك الخاصة بالهيئة الحكومية للتنمية «إيغاد» في تلبية الحدّ الأدنى من متطلّبات تسوية الأزمة السودانية، والذي بدت أجندته متباينة إلى حدّ كبير عن أطروحات الوساطات السابقة؛ فقد ارتكزت على ما وصفته بصياغة رؤية مشتركة لدول جوار السودان المباشر (مع استبعاد السعودية وكينيا وغياب الولايات المتحدة)، واتّخاذ خطوات لحلّ الأزمة، والحفاظ على الدولة السودانية ومقدّراتها، والحدّ من استمرار الآثار الجسيمة لها على دول الجوار المعنية والمنطقة ككلّ (القرن الأفريقي وإقليم الساحل). وكرّر الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في بدء الاجتماع - والذي سبقته اجتماعات مهمّة مع عدد من القادة، أبرزهم رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، والرئيسان الإريتري أسياس أفورقي، والجنوب سوداني سيلفا كير -، مطالبته الأطراف المتحاربة بـ«وقف التصعيد والبدء في مفاوضات جادّة لوقف إطلاق النار، وتسهيل نفاذ المساعدات الإنسانية»، وبـ«إطلاق حوار جامع لجميع الأطراف (السياسية)... لبدء عملية سياسية شاملة»، وأخيراً بتشكيل «آلية اتصال منبثقة عن الاجتماع لوضع خطّة عمل تنفيذية للوصول إلى حلّ شامل للأزمة السودانية». وبخلاف الوساطات السابقة، خرج البيان الختامي للاجتماع في نهاية جلسة مغلقة جمعت قادة دول جوار السودان السبع، ببنود حظيت بقبول وزارة الخارجية السودانية و«مجلس السيادة».رؤى دول الجوار: قراءة الأولويات والتشابكات
مثّل حضور رئيس الوزراء الإثيوبي، اجتماع القاهرة، مفاجأة للمراقبين، خصوصاً في ظلّ توقُّعات تشير إلى تضارب رؤية بلاده مع رؤية مصر في الملفّ البالغ الحساسيّة بالنسبة إلى الجانبَين، والذي يتقاطع مع ملفّات شائكة أخرى، في مقدّمتها ملفّ «سد النهضة» في أجواء «الملء الرابع». وركّز آبي أحمد، الذي عقد اجتماعاً ثنائيّاً مع السيسي عقب وصوله إلى العاصمة المصرية يوم 12 تموز الجاري، في كلمته، على ضرورة «وجود سلطة في السودان» للأخذ بزمام الأمور، في تكرار لِما قاله خلال قمّة «إيغاد»، مجدّداً دعوة بلاده إلى الوقف الفوري لإطلاق النار. ومن جهته، أكّد الرئيس الإريتري دعمه مقرّرات القمّة، وأبرزها «احترام سيادة السودان واستقلاله»، متوقّعاً أن تقود في النهاية إلى تأمين المناخ الملائم للشعب السوداني لحلّ مشكلاته وأزماته، مع تفادي أيّ «تدخّلات خارجية أو محلّية»، سواء عسكرية أو إنسانية، وأن يكون للاجتماع أثر في حلّ المشكلات في الإقليم مستقبلاً (في إشارة ضمنية إلى ملف سدّ النهضة).
وركّزت رؤى قادة تشاد وليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، على خطورة تداعيات الأزمة في السودان على دول الجوار وإعاقتها الاستقرار والتنمية فيها، في ضوء عمليّة النزوح واللجوء غير المسبوقة منذ سنوات (تشير آخر تقديرات الأمم المتحدة، والصادرة منتصف الشهر الجاري، إلى وجود 2.4 مليون مشرّد داخل السودان، ونحو 725 ألف لاجئ)، وأهميّة تنسيق مواقف دول الجوار على أسس عملية لتسوية الأزمة، وإعادة بناء السودان «الديموقراطي الموحّد» مستقبلاً. وأولى الرئيس الجنوب سوداني، بدوره، اهتماماً بالجوانب السابقة، ودعا المجتمع الدولي إلى توفير الدعم اللازم لمعالجة آثار الأزمة الراهنة، مشدّداً على ضرورة العمل وصولاً إلى وقف دائم لإطلاق النار، ووقف العداءات، ووصول المساعدات الإنسانية، ووضع إطار عمل لبحث تسوية سياسية سلمية «تحترم الشعب السوداني وسلامة أراضيه»، في ما يتطابق تقريباً مع الأجندة المصرية.
وكشفت هذه الرؤى وتنوّع أولوياتها، عن تشابكات عدّة؛ فقد حرص آبي أحمد على انتقاد «مجلس السيادة» والقوات المسلحة ضمناً، وتحميلهما مسؤولية الأزمة الراهنة، والتعامل مع السودان على أنه دولة فاشلة بحاجة إلى تدخّل إقليمي عاجل بصيغ مختلفة. ومن جهتهم، اتّفق أفورقي وكير مع السيسي على مسألة بالغة الأهمية، وهي التأكيد على سيادة السودان واستقلاله وسلامة أراضيه، وكذلك دعم مؤسّساته، فيما ركّزت دول جوار السودان الأخرى (في الغرب، والتي تمتدّ حدود إقليم دارفور بولاياته معها) على تداعيات الأزمة داخل حدودها، ودعم العمل الجماعي الإقليمي لمعالجتها.

قراءة في البيان الختامي: خريطة طريق جديدة
خرج البيان الختامي للاجتماع في ثماني نقاط، تضمّنت مناشدة الأطراف المتحاربة وقف التصعيد والوقف الفوري والمستدام لإطلاق النار، فيما أكد البندان الثاني والثالث على احترام سيادة السودان ووحدته وسلامة أراضيه «وعدم التدخُّل في شؤونه الداخلية»، وأهميّة الحفاظ على الدولة السودانية ومقدّراتها ومؤسّساتها، وركّزت البنود 4 - 5 - و6 على الجوانب الإنسانية للأزمة وخطورة تفاقم تداعياتها. وأبرز البند السابع «أهميّة الحلّ السياسي لوقف الصراع الدائر، وإطلاق حوار جامع للأطراف السودانية، يهدف إلى بدء عملية سياسية شاملة تلبّي طموحات الشعب السوداني وتطلّعاته»، بينما جاء البند الثامن والأخير متضمّناً خريطة طريق لمقاربة دول الجوار للأزمة في السودان، بإعلانها الاتفاق على تشكيل آلية على مستوى وزراء خارجية هذه البلدان تتولّى ملفّ الأزمة من كل جوانبها.
يتّضح من توافق دول الجوار على هذا البيان، وجود مخاوف جادّة للغاية إزاء تمدُّد الأزمة، بغضّ النظر عن تباين رؤى هذه البلدان وتشابكات مصالحها أو ارتباطاتها بأطراف الصراع في السودان، وضرورة وضع شعار «حلول أفريقية للمشكلات الأفريقية» موضع التطبيق، تفادياً لتحوّل الأزمة الراهنة إلى ساحة مفتوحة لحرب إقليمية تستنزف مقدّرات جميع الأطراف المعنية. وأشار مراقبون إلى توجُّه القاهرة، التي أجّلت الاجتماع أكثر من مرّة بسبب ضغوط مارستها دول خليجية عليها، نحو تبنّي مقاربة أكثر تشدُّداً وحزماً تجاه «شركائها» الخليجيين في الملفّ السوداني، اتّضحت معالمها في اصطفاف دبلوماسي أفريقي غير مسبوق منذ اندلاع الأزمة، خلف أجندة الاجتماع ومخرجاته.
وتبقى التوقّعات إزاء التزام الأطراف السودانية بمخرجات الإعلان، محلّ اختبار في الساعات المقبلة، فيما وردت أنباء عن تجدُّد هجمات الجيش السوداني المكثّفة في العاصمة الخرطوم صباح الجمعة، وتوقّعات مراقبين سودانيين أن يستكمل الجيش عملياته حتى «إنهاء التمرد»، والعودة إلى العملية السياسية الشاملة، بحسب ما جاء في بيان لـ«مجلس السيادة» صدر عقب اجتماع القاهرة مباشرة.

غياب البرهان: الدلالات والآثار
مع تعمّق حالة غياب قائد قوات «الدعم السريع»، محمد حمدان دقلو، طفت أخيراً ظاهرة غياب رئيس «مجلس السيادة»، قائد الجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان، بحجّة متابعة الأوضاع الميدانية. وظهر ذلك في قمّة «إيغاد» الأخيرة، وحضور نائبه مالك عقار، علماً أن غيابه جاء في ضوء التوتّر الذي سبق القمّة بين الخرطوم ونيروبي بشكل مباشر، وأديس أبابا بشكل غير مباشر (على خلفية استضافة الأخيرة وفداً موسّعاً من «قوى الحرية والتغيير» للتباحث في الشأن السوداني، ومشاركة الوفد لاحقاً في فعاليات قمّة «إيغاد»). لكنّ غياب البرهان عن اجتماع القاهرة، أثار تساؤلات كثيرة بخصوص دلالته، بعد تقارير متفرّقة تحدّثت عن احتمال حضوره الاجتماع ثم انشغاله بتفقّد أوضاع جنوده في بعض مناطق الخرطوم، أو ما عدّه البعض صعوبة لوجيستية في توجّهه إلى القاهرة. لكن يبدو أن من أهمّ دلالات هذا الغياب، الذي تبدّدت تفسيراته السابقة تلك بإعلان سفارة السودان لدى روسيا الترتيب لمشاركة البرهان في قمّة روسيا - أفريقيا، في نهاية الشهر الجاري، وجود مشروطية بتهميش البرهان كما «حميدتي» في الجهود الإقليمية الراهنة. وعزّز الخلاصة المتقدّمة، حضور آبي أحمد الاجتماع، وعقده لقاءً مع السيسي، هو الأول من نوعه منذ تشرين الأول 2019.
نجح اجتماع القاهرة لدول جوار السودان المباشر في توفير مظلّة واسعة لرؤى هذه الدول


وإزاء ما تقدَّم، يبدو غياب البرهان مفهوماً نوعاً ما في لقاءات القاهرة للخروج باجتماع متوازن وفي سياق تبريد التوتّر في ملف علاقاتها الثنائية مع إثيوبيا مرحليّاً، ولا سيما أن قمة السيسي - أحمد شملت، إلى جانب مسألة «سدّ النهضة»، بحث سُبل تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدَين، في ما يُعدّ اختراقاً واضحاً في هذا المسار. على أي حال، فإن غياب البرهان يعطي إشارة إلى أن العملية السياسية التي اقترحتها مصر، قد لا تتضمّن سوى دور رمزي للرجل ولـ«مجلس السيادة»، وهي خلاصات ستحسمها الأيام المقبلة، وسط توقّع بعض المراقبين بقيام قائد الجيش بزيارة عاجلة للقاهرة لبحث مخرجات الاجتماع وسبل إطلاق عملية سياسية «شاملة»، بعد وقف الصراع الحالي.

خلاصة
نجح اجتماع القاهرة لدول جوار السودان المباشر في توفير مظلّة واسعة لرؤى هذه الدول، ومن دون استقطابات تُذكر، وهو ما يرجع أساساً إلى حرص القاهرة على تسوية الأزمة السودانية التي تجاوزت شهرها الثالث بالفعل، بأقلّ تكلفة ممكنة وتفادي مزيد من تدهور الأوضاع في السودان، وقبول تعدُّد الرؤى في شأن سبل الحلّ، وإطلاق الفرصة كاملة أمام الآلية الجديدة للتواصل مع «أطراف الأزمة»، ووضع التوصيات الضرورية لوقف الصراع وبدء عملية سياسية جديدة. ويُتوقّع أن تحقّق الآلية اختراقاً في الأزمة، في ضوء امتلاك دول الجوار الأدوات اللازمة للضغط على الأطراف المتصارعة سياسياً وعسكرياً ولوجيستياً.