جنين | صدّق الواقع ما كانت كشفته الصحافة العبرية، من إعطاء المؤسسة الأمنية الإسرائيلية فرصة للأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية، لاستعادة السيطرة على مخيم جنين، في مقابل تقليص الاجتياحات والعمليات العسكرية إلى الحدّ الأدنى. بوادر المخطّط كانت قد اتّضحت في خلال العدوان الأخير على مخيم جنين مطلع الشهر الجاري، إذ اعتقلت الأجهزة الأمنية، حينها، عدداً من كوادر كتائب المقاومة التابعين لحركة «الجهاد الإسلامي»، أثناء محاولتهم الوصول إلى المخيم، فيما حملت خطوات ما بعد الانسحاب مؤشّرات أخرى تنبئ بتكامل بين الاحتلال والمؤسسات التابعة للسلطة، في تأدية الدور نفسه. وفي هذا السياق، كشفت «كتيبة جنين»، مساء أوّل من أمس، أنها اجتمعت مع شخصيات أمنية تابعة للسلطة، واتّفقت معها على تمرير زيارة الرئيس محمود عباس إلى المخيم من دون أيّ اضطرابات أو توتّر، في مقابل إطلاق سراح المقاومَين مراد ملايشة ومحمد براهمة، اللذَين اعتقلتهما الأجهزة الأمنية في محافظة طوباس، وصادرت سلاحهما خلال اقتحام المخيم. وفيما وعدت السلطة بإطلاق سراح المقاومَين، فور انتهاء الزيارة، وبادرت بتسليم أسلحتهما إلى الكتيبة، عادت ونكثت بوعدها، وعمدت إلى اعتقال المقاومَين عيد حمامرة وخالد عرعراوي. كما نفّذت حملات أمنية في بلدة جبع، طاولت عناصر من «كتائب شهداء الأقصى» و«سرايا القدس»، واقتحمت خلالها منازل المقاومين في منتصف الليل. وفي مقابل ذلك كلّه، قرّرت فصائل المقاومة، ولا سيما «كتيبة جنين»، الاحتكام إلى الشارع، داعيةً مساء الإثنين إلى تظاهرات كبيرة في مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة احتجاجاً على سياسة ملاحقة المقاومين والاعتقال السياسي.
وبالفعل، لم يتأخّر المخيم في تلبية النداء؛ إذ خرج الآلاف من الأهالي، وفي مقدّمتهم أمهات الشهداء، وطالبوا الأجهزة الأمنية بالكفّ عن القيام بأدوار تنوب فيها عن الاحتلال، فيما أكد والد الشهيد إياد العزمي أن بنادق المقاومين هي التي تمثّل الشارع الفلسطيني. وأضاف في رسالة مسجَّلة خلال التظاهرات: «بنادق المقاومين هي التي تدافع عنا وقت الشدائد لا التي تختبئ في المقرّات، نحن طلّاب حرية، وهذه البنادق هي التي ستجلب لنا الحرية، لا الانبطاح ولا المفاوضات ولا احمونا». وفي ظلّ انتشار تقديرات بأن زيارة عباس، ومحاولة السلطة تصدّر المشهد في جنين، إنّما تمثّلان محاولة لمقايضة المساعدات بوجود فصائل المقاومة وخلاياها، ردّ جمال الزبيدي، وهو والد الشهيد القائد في «كتائب شهداء الأقصى»، نعيم الزبيدي، وعمّ الشهيدين داوود وطه عبر حسابه في «فايسبوك» على تلك الطروحات بالقول: «إذا كان ثمن إعمار ما دُمّر في المخيم، وتزويده بالمواد التموينية، وتفريغ البعض في الأجهزة الأمنية، هو ملاحقة المقاومين وزجّهم في السجون، ومصادرة أسلحتهم، بدناش المخيم يتعمّر، ولا بدنا مواد تموينية، بدنا المخيم خرابة».
تقرأ «كتيبة جنين» في التصعيد الخطابي والميداني محاولة لدفع المقاومين إلى التصادم مع الأجهزة الأمنية


في المقابل، انقلب أكرم الرجوب، وهو محافظ جنين الذي يتصدّر المشهد الإعلامي والميداني في الوقت الحالي، من نسق التصريحات الثورية التي كان يصدرها في أوقات استبسال المقاومين، إلى التهديد، في تصريحات متفرّقة، باعتقال كلّ مَن تعدّى على مقرّات الأجهزة الأمنية خلال الاقتحام الإسرائيلي. كذلك، سخر، أمس، من التسميات التي تتبنّاها «كتائب شهداء الأقصى» (وتحديداً «وحدات الرد السريع»)، قائلاً في تصريح صحافي إنه «لا يوجد في الضفة قوات ردّ سريع، تلك موجودة في السودان فقط». وتقرأ «كتيبة جنين»، في ذلك التصعيد الخطابي والميداني، محاولة لدفع المقاومين إلى التصادم مع الأجهزة الأمنية، وتوفير الذرائع لتنفيذ حملات كبيرة تطاولهم وسلاحهم، بدعوى أنه تحوّل إلى سلاح «فلتان أمني». إلّا أنه بحسب مصدر في «كتيبة جنين» تحدّث إلى «الأخبار»، فإن «المقاومين لن يقعوا في هذه المصيدة، على رغم أن الذي صمد في مواجهة العدوان الإسرائيلي، واستطاع صدّه بكلّ اقتدار، قادر بكلّ تأكيد على ردع جنود الأجهزة الأمنية، المستعدّين للتخلّي عن شرفهم الوطني (...) غير أن هذا الخيار ليس في وارد الاستخدام، السلطة تدرك حضورنا وقوتنا».
لكن، هل يتكرّر سيناريو البلدة القديمة في نابلس و«عرين الأسود» في مخيم جنين؟ يجيب مصدر مقرّب من الكتيبة، «الأخبار»، بأن «الواقع في المخيم مغاير تماماً للبلدة القديمة في نابلس؛ إذ بُنيت حالة عرين الأسود على أكتاف الكادر الفتحاوي حصراً، من أبناء تنظيم فتح والأجهزة الأمنية، ولذا، توفّرت الأرضية لاختراقهم والتأثير على قراراتهم. أمّا في جنين، فإن المكوّن الأساسي في حالة كتيبة جنين، هو لسرايا القدس، كما أن الكتلة الأكبر من حركة فتح في المخيم، تقف على النقيض من سلوكيات الأجهزة الأمنية، والخطّ السياسي للرئيس محمود عباس. ومن هنا، فإن محاولات الاختراق والتأثير والإغراء بالتفريغ في الأجهزة الأمنية وتسوية الأوضاع الأمنية مع الاحتلال، اصطدمت بالجدار سلفاً (...)». ويضيف المصدر أن «أمام الأجهزة الأمنية خيار الاستفزاز، وصناعة الذرائع للتدخّل في المخيم، لكن أزمتهم ليست مع بضع مئات من الشبّان الذين يحملون السلاح فقط، إنّما مع الشارع، الحاضنة التي لن تقبل بتمرير أيّ مخطّط على حساب البناء المقاوم الذي بُني بدماء الشهداء وتضحيات عائلاتهم».