هل نجحت الإدارة الأميركية في إطلاق مسيرة تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية؟ فرض هذا السؤال نفسه، أمس، بقوة في تل أبيب، بعد تسريبات عن قرب بدء هذه العملية، على أساس مقايضة عنوانها التطبيع مقابل السماح الإسرائيلي للمملكة بتخصيب اليورانيوم لأغراض سلمية. الأنباء الواردة من إسرائيل، والتي حازت اهتمام الإعلام العبري، علماً أنها تقف خلفها تسريبات المؤسّسة الأمنية، أكّدت وجود «تفكير إسرائيلي جدّي» بهذه المقايضة، وتحدّثت عن «خشية» أمنية من إمكان أن يوافق رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، على مطالب السعودية، بطلب ورضا أميركييْن، ما يحقق له، ولـ«إسرائيل الدولة»، مكاسب استراتيجية، وإن على حساب تجاوز لافت للخطوط الإسرائيلية الحُمر.وليس الحديث عن تصميم نتنياهو على التطبيع مع السعودية أمراً جديداً، إذ سبق له الإعلان عن هذا الهدف مباشرة بعد الانتخابات الأخيرة، واصفاً إياه بالهدف المتقدّم في سلّم أولوياته الحكومية. على أن التطبيع مع الرياض ليس مجرد غرض شخصي لنتنياهو أو لغيره في الكيان، على أهميته كإنجاز يُسجّل في سجلّه السياسي، إذ إن للسعودية موقعاً استراتيجياً كبيراً جداً، ما يعني أن التطبيع معها يلبّي مصالح هامة لإسرائيل، سياسياً واقتصادياً وأمنياً، وصولاً إلى إمكانية تحقيق إنجازات استراتيجية للأمن القومي الإسرائيلي ضد أعداء تل أبيب في المنطقة، انطلاقاً من الرياض. وعلى رغم أقدمية ذلك المطلب، إلا أن الجديد هو أن يقبل نتنياهو بدراسة المطلب السعودي بتخصيب اليورانيوم لأهداف نووية سلمية، في ما يُعدّ متغيّراً غير مسبوق، يؤشّر إلى التحول في مكانة إسرائيل ونظرتها الخاصة إلى نفسها ومكانتها لدى الراعي الأميركي، وقراءتها للتحولات الإقليمية والتهديدات الكامنة والمفعّلة فيها، وإدراكها ضيق الخيارات المُتاحة لديها لمواجهة تلك التهديدات. ومن جهة نتنياهو خصوصاً، يعكس هذا التغيّر «انضغاطه» في الداخل، ما يؤثّر في دفعه إلى قرارات، ما كان ليتخذها في ظروف مغايرة.
وعلى رغم أن لنظام السعودية مكانة خاصة في رؤية إسرائيل الاستراتيجية لبيئتها الإقليمية، إذ تُعدّ المملكة «درة التاج» في مسار التطبيع الذي بدأ قبل سنوات، بل هي الهدف الرئيس من أصل العملية، إلا أن اضطرار تل أبيب إلى التراجع عن «ثوابتها»، عبر السماح لغيرها في المنطقة بأن يدخل النادي النووي، وإن كان التقدير أن يكون الدخول مشروطاً وبلا فاعلية عسكرية، يشير إلى حجم التراجع في المكانة الإقليمية للدولة العبرية، والذي يضطرها إلى «مدّ اليد مع أثمان» إلى جهات في المنطقة كي تعينها على أعدائها. وإذا ما دلّ ذلك على شيء، فإنما على قصور ذاتي عن تحقيق المصالح، بلا معونات كيانات خارجية، وإن كان الراعي الأميركي لا يزال حاضراً وبقوة، لكن بأجندته الخاصة به أيضاً، والتي تصغر إلى جانبها أجندة إسرائيل الخاصة، رغم المشتركات بينهما. وفي هذا المجال، يؤشّر الدفع الأميركي الجليّ نحو حمل إسرائيل على السماح بولادة «سعودية نووية»، إلى تحوّل لدى الراعي الأكبر للجانبين، والذي يريد من الحلفاء الإقليميين الاصطفاف جنباً إلى جنب، كي يتمكّن هو من الابتعاد قدر الإمكان عن مستنقعات المنطقة، والتفرغ لما هو أهم، في ظل متغيّرات دولية من شأنها أن تؤثّر في مكانة الولايات المتحدة وسطوتها حول العالم.
اندفاعة الأميركيين لتلبية الشروط السعودية، وإن بعد ترويضها، تفوق كونها مجرد مصلحة إسرائيلية


مع ذلك، تشير التسريبات في الإعلام العبري حول «خشية» المؤسسة الأمنية من تجاوز نتنياهو الخطوط الحمر، إلى ظهور خلافاتٍ قد تصعّب على الأخير المَهمّة. لكن، هل فعلاً تعارض المؤسسة الأمنية التنازل عن تلك الخطوط؟ وهل هي غير معنيّة بالمطلق بإزاحتها؟ تصعب الإجابة بكلا. إلا أن بين الرفض المطلق، والقبول المطلق بلا شروط، مكاناً للأخذ والرد، وهو ما ستسعى إليه تل أبيب بمستوييْها السياسي والأمني. وفي هذا الإطار، يمكن التقدير أنه في حال قبول الشرط النووي السعودي، وهو ما ظهرت إشاراته بقوة، ستكون الموافقة مشروطة بمطالب من مثل أن يجري التخصيب لأهداف سلمية في المملكة، من دون انتقال التقنيات إلى الأخيرة. لكن قبل ذلك، هل استحصلت الرياض فعلاً على موافقة تل أبيب المبدئية؟ تتواتر الأنباء في إسرائيل عن مفاوضات تجري الآن لم تصل إلى نتائجها النهائية، وهي في مرحلة الأخذ والرد وطلب الضمانات، ليس فقط ربطاً بحدود القدرة النووية وضرورة منع انفلاشها، بل وأيضاً استحصال تل أبيب على أقصى ثمن مقابل، وفي الخلفية هنا أولاً «العدو» الإيراني، الذي يُراد للسعودية أن تعود إلى تموضعها السابق في مواجهته، كعدو مشترك من جديد، للجانبين.
على أي حال، ووفقاً للتسريبات، ومن بينها حديث رئيس هيئة «الأمن القومي»، تساحي هنغبي، شريك السر لنتنياهو، فإن إسرائيل لن تسمح للسعودية بأن تملك برنامجاً نووياً عسكرياً، ما يعني أن ما دون ذلك، هو في دائرة الإمكان، وأن النقاشات في الغرف المغلقة تدور حول الضمانات والقيود المطلوبة. ولعلّ هذا ما يفسر حديثاً إضافياً لهنغبي ورد أمس من «أننا اقتربنا أكثر من أي وقت مضى من التطبيع مع السعودية، إلا أنه لا تزال هناك فرصة أقل من خمسين في المئة لعدم وصول المفاوضات الجارية إلى أي نتيجة». أما وزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين، فقلّل، أمس، من تأثير العامل الفلسطيني في المفاوضات الدائرة برعاية أميركية، قائلاً: «نحن أقرب إلى اتفاق سلام مع المملكة السعودية، وهناك فرصة سانحة للتطبيع معها، إذ إن القضية الفلسطينية لن تكون عقبة أمام اتفاق مع المملكة»، ما يعني أن الرياض قد تكون تخلّت عن شروطها الفلسطينية للتطبيع مع تل أبيب، والتي كانت تتمسك بها في حديثها الرسمي العلني.
وبالعودة إلى التسريبات عن الخشية الأمنية، وسواء كان متَّفقاً عليها أو لا، فهي تخدم المفاوض الإسرائيلي، إذ من شأنها تعزيز شروطه وطلباته من المملكة. وعلى فرض وجود معارضة وازنة في صفوف المؤسسة الأمنية، فمن غير المرجّح تحوّلها إلى «فيتو»، خصوصاً في حال وجدت المؤسسة السياسية، مدعومة بجهات استخبارية وآراء مهنية (الموساد ومجلس الأمن القومي)، أن من مصلحتها - العامة قبل الخاصة - التطبيع مع السعودية، وإن مع أثمان. هل سيكون هذا الثمن شكلياً أو حقيقياً؟ وهل سترضى السعودية بمكاسب «نووية هوائية»؟ الأكيد أن ثمّة مصلحة مشتركة في «التواضع»؛ إذ إن «الشريك الإقليمي»، وبعد فقدانه الرهان على خيارات من شأنها كسر إيران، وتلمّسه محدودية التأثير الأميركي - الإسرائيلي على الجمهورية الإسلامية، بدأ يتكيف مع الواقع، ويحاول اجتراح حلول، مع إبدائه استعداده للتراجع أمام الإيرانيين، في حال لبّت إسرائيل وأميركا شروطه الخاصة.
وبالنسبة إلى الأميركيين، فإن اندفاعتهم لتلبية الشروط السعودية، وإن بعد ترويضها، تفوق كونها مجرد مصلحة إسرائيلية، إذ تتحوّط كذلك واشنطن من إمكانية دخول بكين، الخصم الحالي والعدو اللاحق، إلى المنطقة من البوابة الكبرى وهي السعودية، ما يعني أن «اللعبة» السعودية، التي أدارها ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، دفعت فعلاً الأميركيين إلى التراجع، مع التذكير هنا بأن السعودية ما كانت لتستبدل الصين بأميركا، ولو عملت على استقلالية مجتزأة مع محاولتها الموازنة ضمن السقف الأميركي، وهو ما يبدو أنها نجحت فيه.