في عمق قرار السعودية إعلان انتمائها إلى الخليج كهوية، تأتي الجوانب المشتركة بين الدول الست: حداثة النشأة، جِدّة السلطة المركزية فيها، النفط، النظام الملكي الوراثي المطلق، التحدّيات الأمنية ذاتها، التي سيتأكد لاحقاً أنها تأتي من الداخل الخليجي وليس الخارج فقط.ويمكن أن نضيف الاقتصاد الريعي، كثافة العمالة الوافدة، قلّة السكان، لكن بالتأكيد في قلب ذلك علاقة هذه الدول الوطيدة بالولايات المتحدة، التي حوّلت دول الخليج لاحقاً إلى حاملات طائرات عملاقة.
وهناك بالطبع الجهد البريطاني في إنشاء هذه الكيانات، حيث رسم الإنكليز حدودها، وانتصروا لفرع قبلي يحكم كل مشيخة، وكرّسوا سلطته المركزية، الشرط الأساس لنشوء دولة غير فاشلة، وسبق للإنكليز وضع حدٍّ للصراع الساخن بين كيانات الساحل «المتصالح» في وقت مبكر من القرن التاسع عشر.
على رغم ذلك، يقول الأكاديمي السعودي خالد الدخيل - ويتفق معه آخرون - إن «السعودية لا تنتمي إلى الخليج، لا جغرافياً ولا تاريخياً، والسعوديون ارتكبوا خطيئة كبيرة جداً في حق الجزيرة العربية» بإهمال تاريخها وحضارتها وتصنيفها دولة خليجية. وفي ذلك قدر كبير من الصحة، لكنّ الهوية الخليجية بالمعنى الذي يتطلّع إليه الحكام السعوديون الأحاديون، غايتها خلق غطاء «ثقافي» ومبرر «موضوعي» وحجج كلامية وتسويق منطقي، لإطلاق مسار من التنسيق بين كيانات ملكية وراثية نفطية وغنية، في ظل القلق من انهيارها، وعدم تمكّن السعودية وحدَها من مجاراة الحالة الإقليمية السائدة والمضطربة.
انتقاء بُعد هوياتي دون آخر من قبل حكّام لا يستطيع أحد سؤالهم عن التاريخ أو المستقبل، يُقاس بقدر ما يرسخه من سلطة لهم، ولا يقاس في جانبه الثقافي البحت الذي ينشغل به أولئك المهتمون بالتاريخ والآثار والتنوّع الجغرافي واللهجات والطبخ واللباس والعرضة التي تتميّز بها شبه الجزيرة العربية دون جوارها الخليجي في بعض مفرداته.
والعروبة والدين والحيز الجغرافي نقاط اشتراك أساسية أيضاً بين الكيانات الستة، لكنّ هذه المشتركات تجمع السعودية بجوارها الشامي واليمني والمصري أيضاً، ما يدفع للقول إن الهوية خيار سياسي، ومحاولة درسها بغية فهم القرار الفوقي الرسمي وخلفياته وغاياته وتداعياته، لا تستقيم من دون وضعها في سياق الصراع الأكبر حول السعودية والخليج وفيهما.
أصاب القلق معاقل المشيخات الخليجية مطلع الخمسينيات بسقوط الملك فاروق في مصر على يد الضباط الأحرار، وتكرّست الهواجس السعودية بانهيار المملكة المتوكلية اليمنية في عام 1962، لكنّ الحدث الأشد وطأة تمثّل في الإطاحة بالمملكة العراقية في عام 1958، الذي هزَّ الخليج برمّته، نظراً إلى مكانة بلاد الرافدين وقربها الجغرافي ودورها العربي.
الهوية الخليجية نتاج هواجس أمنية شبه خالصة، ما يجعلها «هويةً أمنيةً» بحتاً، أو تكاد


وبعد برهة من شعور الكيانات الجديدة الناشئة بزوال الخطر، إثر «نكسة» 1967 وترنُّح نظام عبد الناصر الذي رأته الأنظمة الوراثية تهديداً، فإن نجاح العقيد معمر القذافي بالإطاحة بالسنوسية في ليبيا نهاية الستينيات، أعاد فتح جرح الكيانات التي لم يكن استقلال أغلبها قد أُعلن بعد، وزاده نزيفاً وتقيّحاً إعلان الإنكليز الرغبة في الرحيل العسكري من الخليج «البريطاني»، ثم جاء الانفجار الإيراني في عام 1979 ليضع حداً نهائياً للتأرجح السعودي الهوياتي، وحسمه باتجاه تعميم الهوية الخليجية، فأصبح الملايين من السعوديين – المسمّى الذي يحتاج إلى نقاش - جميعهم خليجيين، بغضّ النظر عن مكان سكنهم ولهجتهم ومدى حبهم للبحر وأكلهم للسمك!
كان متاحاً للرياض إعلاء شأن الهوية الشامية أو «الهلال خصيبية» وتمكينها وتعميمها، لكن ذلك كان سيضعها على طاولة واحدة مقابل العراق وسوريا، ويذكّرها بخمسة أمور مزعجة على الأقل: الملوك المنافسون السابقون، والعمق الحضاري لتلك الدول القديمة وأصالتها ومركزيتها، وحجمها السكاني الكبير، وأيديولوجيتها المتباينة.
كما كان أمام القصر السعودي الخيار في اعتبار الهوية اليمنية مدخلاً تلتفّ حوله الأقاليم الأخرى، فقطاعات واسعة من المدن الجنوبية: نجران وجازان وعسير، ترى نفسها ذات امتداد يمني، لكن ذلك لم يكن ليوفّر عمقاً جيوسياسياً كالذي يوفّره الإطار الخليجي المُحتضَن أميركياً، فضلاً عن فقر الدولة المجاورة وعدد سكانها الضخم.
أما خيار تعميم الهوية الحجازية، حيث تقع مكة والمدينة اللتان تملكان قوة ناعمة لا تُضاهى، واللتان كانتا متطورتين إدارياً وسياسياً، مقارنة بنجد، نظراً إلى ما ورثتاه من هياكل الدولة العثمانية التي حكمت المنطقة بعض قرون، فلعل تمايزها هذا، هو ما سبّب رفض شيوع هويتها، فيما يراد محاصرته في محله.
والأهم مما سبق، أن علينا لفت النظر دائماً إلى الجيوبوليتيك: البعد الجوهري في هذا المشهد المتشابك، فمن وجهة نظر الحكم السعودي المتفاجئ من حجم مساحة الأرض التي حازها وبات يحكمها، فإن تمكين هوية الحجاز من الانتشار والتعميم في الدولة النجدية الطرية الباحثة عن توطيد أركانها الناعمة كما الخشنة، لم يكن يعني فقط فتح الباب على مصراعيه لتركيا للتوغل من جديد في الديار التي طُردت منها، وإنما أيضاً منح فرصة ثمينة للدولة المصرية، المنافس الأبرز عربياً لآل سعود، لبناء رأسمال في أرض تعرفها القاهرة جيداً وتربطها بها علاقات وطيدة. لذا، ليس مفاجئاً أن يمثل تعميم الهوية الحجازية في شبه الجزيرة خطاً أحمر.
هذا المنظور السياسي والأمني، قاد إلى إعلاء الخليج هوية للسعودية والسعوديين، وعلينا التفتيش إلى أي مدى تمّ بالفعل خلجنة نجد، في ظل اتهامات توجّه إلى آل سعود بالسعي إلى نجدنة أو «سعودة» شبه الجزيرة العربية ومناطقها كافة.
ليست هناك هوية خاطئة وأخرى صحيحة. وهذه المناطق تستحق التعاون والتكامل وصولاً إلى نوع من الوحدة، فهي إقليم مترابط ومتشابك على مختلف الصعد، يشمل شبه الجزيرة والخليج، والشام ومصر، بل على مستوى العالم العربي، نضيف إليه الجوار التركي والإيراني، لكن أسس التعاون والتكامل لا يمكن أن تتحقّق إلا عبر منح الجماعات المتعددة في المناطق المختلفة فرصها الطبيعية في البروز والتعبير عن نفسها، في إطار من النظام السياسي غير القسري، على مستوى كل كيان قطري، وعلى المستوى الإقليمي.
في هذه الحالة المنشودة لن تظلم شبه الجزيرة العربية، ولا مناطقها التي تحتضن تنوّعاً عظيماً، لكنه مكبوت. ويشمل ذلك عدم قدرة أهالي القطيف والإحساء على التعبير عن ذواتهم كما يأملون، فضلاً عن صعوبة أن تجد بعض ثقافاتهم وتصوراتهم مساحتها الطبيعية في الإعلام والمناهج الوطنية، على رغم أصالة هذه الثقافة بالمنظار «الخليجي» المُدّعى، وبذلك يتّضح تهافت هذا الادّعاء واضطرابه وفوقيته، ما دامت الهوية الخليجية نتاج هواجس أمنية شبه خالصة، ما يجعلها «هويةً أمنيةً» بحتاً، أو تكاد.