رام الله | هشّمت عملية تل أبيب، المنظومة الأمنية والاستخبارية الإسرائيلية، ولم تترك خياراً أمام المحلّلين ووسائل الإعلام العبرية، سوى وصْف حكومة بنيامين نتنياهو، وأجهزتها المختلفة، بـ»الفشل الكبير»، بعدما تبيّن أن المنفّذ، ويدعى كمال أبو بكر، من العناصر التابعين لـ»كتيبة جنين»، مطلوب لسلطات الاحتلال منذ عام ونصف عام، وكان من بين المستهدفين في اقتحامات بلدته رمانة، ومخيم جنين. وعلى قاعدة «نغزوهم ولا يغزونا»، وصل أبو بكر، تل أبيب، حاملاً سلاحه الشخصي، ونجح في هزّ أمن «العاصمة» الهشّ واحتياطاتها الأمنية، ضارباً حالة التأهُّب والاستنفار العسكريَّين في محيط جنين، وعلى طول الخطّ الأخضر وجدار الفصل العنصري. ومح حلول مساء يوم أمس، وفي محاولة لترميم صورة المؤسّستَين الأمنية والسياسية، أفاد بيان مشترك صدر عن الجيش وقوات حرس الحدود و»الشاباك»، بأن القوات الإسرائيلية تمكّنت من تصفية «خلية» كانت في طريقها لتنفيذ عمليّة، قالت وسائل إعلام عبرية إنها مؤلّفة من ثلاثة عناصر تمّ اغتيالهم في السيارة قرب جنين.وبالعودة إلى عملية تل أبيب، فهي تعيد إلى الفلسطينيين ذاكرة نيسان من عام 2002، حين تعرّض مخيم جنين لمجزرة واسعة استمرّت على مدى 13 يوماً، رمت فيها إسرائيل بكلّ ثقلها، محاولةً إقناع المستوطنين - آنذاك - بأن أسطورة المخيم والعمليات الاستشهادية انتهت. ووقتها أيضاً، خرج الشهيد راغب جرادات من جنين مرتدياً زيّ جندي إسرائيلي، وكسر المنظومات الأمنية والاستخبارية والعسكرية، مع وصوله إلى حافلة عسكرية وسط حيفا، لينفّذ عمليته الاستشهادية.
يفضّل الفلسطينيون تنفيذ العمليات الفدائية في تل أبيب، وقصْفها في كلّ جولة قتال. ولذلك دلالات كثيرة؛ فهي «درة» المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، وبقرته المقدّسة، التي تفاخر قادة العدو بعدم المسّ بها. لكن المقاومين نجحوا، منذ آذار عام 2022، في تنفيذ 7 عمليات في «العاصمة»، أبرزها عملية «بني براك» التي نفّذها ضياء حمارشة، وعملية «ديزنغوف» التي نفّذها رعد خازم، وعملية «العاد» التي نفّذها أسعد الرفاعي وصبحي صبيحات - وهؤلاء كلّهم من جنين -، لتكرّر المقاومة استهداف «ديزنغوف» في عملية معتز الخواجا، ومن ثم عبد الوهاب خلايلة، وأخيراً كمال أبو بكر. ومع بدء تواتر الأنباء حول عملية تل أبيب، واسم منفّذها، خرج أهالي مخيم جنين في مسيرة شعبية حاشدة، وهم يهتفوت: «تل أبيب نربّيها... تحت النار نخلّيها».
وتحمل العملية الأخيرة دلالات بالغة الأهمية؛ فهي تأتي بعد مرور شهر على العدوان الذي تعرّض له المخيم، والذي كان يُراد منه القضاء على المقاومة واجتثاثها، وإذ بالأخيرة تدكّ معقل حكومة نتنياهو، وتضرب في أكثر الأماكن أمناً. كما تزامنت مع الذكرى السنوية الأولى لمعركة «وحدة الساحات»، التي جاءت رداً على اغتيال إسرائيل، قيادات عسكرية تابعة لـ»سرايا القدس» في غزة. وعلى الرغم من الفشل الإسرائيلي في منعْ العملية، إلّا أن قادة الاحتلال حاولوا التمويه على ذلك بزعم أنهم منعوا عملية أكبر وأوسع، وفق ما جاء على لسان نتنياهو نفسه، والترويج لما مفاده بأن المنفّذ كان يهدف للوصول إلى مكان التظاهرة المركزية المناهضة للحكومة في تل أبيب، لتنفيذ العملية هناك. ورأى المراسل العسكري لصحيفة «يديعوت أحرونوت»، يوآف زيتون، أن «ما حصل في هذه العملية لم يحصل خلال 10 سنوات، إذ تجرّأ فلسطيني مطلوب على التسلّل عبر الحدود والوصول إلى قلب تل أبيب، وتنفيذ عملية، قَتل فيها شرطيّاً وأصاب آخرين»، متسائلاً: «لماذا مرّ منفّذ العملية على مطعم ولم يطلق النار على مرتاديه، واستخدم السلاح فقط عندما أثار شكوك أحد عناصر الشرطة، فما الذي خطط له؟ هل كان ينوي تنفيذ العملية في التظاهرة الكبرى المناهضة للتعديلات القضائية في شارع كابلان في تل أبيب؟». ومن جانبه، اعتبر مراسل «القناة 14» العبرية، أن «ما حدث في تل أبيب هو فشل أمني كبير... الفلسطيني الذي نفّذ العملية في تل أبيب كان مطلوباً للجيش عندما كان مختبئاً في مخيم جنين للّاجئين، وعجز الجيش عن الوصول إليه منذ 6 أشهر»، فيما ذكرت قناة «كان» أن «خروج منفّذ عملية تل أبيب من جنين قد يدفع المنظومة الأمنية إلى اتّخاذ قرار بإعادة نشاط الجيش إلى المخيم».
تسعى إسرائيل بكلّ السبل إلى إخماد النار المشتعلة في الضفة، قبل أن تفقد السيطرة عليها


وهكذا، تضع عملية تل أبيب مزيداً من التحدّيات والضغوط أمام حكومة نتنياهو، والتي التأم «الكابينت» الخاص بها مساء أمس بعد أسابيع من الانقطاع، وعلى طاولته ملفّات ملتهبة أبرزها استعداد الجيش الإسرائيلي للحرب في ضوء ارتفاع عدد الجنود الرافضين للخدمة، والتصعيد الحاصل في شمال فلسطين المحتلّة وفي الضفة الغربية، وسبل دعم وتقوية السلطة الفلسطينية نزولاً عند الرغبة الأميركية. وفي هذا الإطار، قال وزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين، لإذاعة الجيش: «سنقدّم تسهيلات للفلسطينيين استجابةً لدواع أمنية وسياسية»، بينما كشفت مصادر عبرية أن مسؤولين أميركيين أبلغوا نظرائهم الإسرائيليين في خلال محادثات جرت نهاية الأسبوع، بأن إدارة جو بايدن تنتظر المصادقة على التسهيلات للفلسطينيين في جلسة «الكابينيت»، ووقْف مشروع قانون يسمح لإسرائيليين أُصيبوا أو قُتل أقارب لهم في عمليات، بتقديم دعوى للحصول على تعويضات مالية من السلطة.
وفي هذا الوقت، تسعى إسرائيل بكلّ السبل إلى إخماد النار المشتعلة في الضفة، قبل أن تفقد السيطرة عليها، وهي تنظر بقلق بالغ إلى المقبل من الأيام، وخاصّة في حال أيّ فراغ في رئاسة السلطة الفلسطينية، حيث تشير تقديرات العدو إلى احتمال اندلاع انتفاضة ثالثة في الضفة، في ظلّ تكدس آلاف المسلّحين في أنحائها. وذكر المراسل العسكري لـ»يديعوت»، نقلاً عن أوساط جيش الاحتلال، أن الاستخبارات الإسرائيلية تلقّت، في الأسبوع الأخير، تذكيراً آخر بانفجار الوضع في الضفة الغربية، بعد ثلاث هجمات مسلّحة وقعت في غضون يوم واحد. ووفق ما جاء في الصحيفة أمس، فإن رئيس الشاباك، رونين بار، قدّم لنتنياهو «إنذاراً استراتيجياً» حول الوضع في الضفة، جاء فيه أن «الإرهاب اليهودي يغذّي المقاومة الفلسطينية»، وأن «استهداف الفلسطينيين وأملاكهم سيؤدّي إلى تنفيذ عمليات مسلّحة فلسطينية». وتابعت أن رئيس أركان الجيش، هيرتسي هليفي، حذّر من أن الإرهاب اليهودي يزيد المحفّزات لتنفيذ عمليات مسلّحة ضد أهداف إسرائيلية».
وضمن هذا السياق، تشهد مدينة جنين، منذ أيام، مواجهات واشتباكات بين مسلحين والأجهزة الأمنية، كان آخرها عقب عملية تل أبيب، حيث أَطلقت الأجهزة الأمنية الرصاص وقنابل الغاز على المواطنين الذين خرجوا في مسيرة للاحتفاء بالعملية، لتندلع بعدها اشتباكات مسلّحة وإطلاق نار، وهو حدث تكرّر الأسبوع الماضي بصورة يومية. وكثّفت السلطة من حضورها الأمني والعسكري في مدينة جنين عقب انتهاء العدوان على المخيم قبل شهر، نفّذت خلالها اعتقالات واسعة في صفوف المقاومين وتحديداً في القرى المحيطة بجنين، وفي المدينة، في محاولة لتجفيف المقاومة، إلى جانب الاشتباك مع المسلّحين في المدينة والمخيم، والذي وصل إلى تبادل لإطلاق نار وإلقاء عبوات ناسفة محلّية الصنع «أكواع» تجاه المقاطعة.