في الثلاثين من تموز الماضي، خرج المئات من المتظاهرين الشباب إلى شوارع قطاع غزة، رافعين شعارات «الحق في الحياة الكريمة»، مستنفرين الأجهزة الأمنية التي بذلت جهوداً مضنية لإنهاء هذه التظاهرات. وكانت سبقت تلك الاحتجاجات التي توزّعت على مختلف محافظات القطاع، بزخم متباين، جملة من الحوادث التي تسبّب بها سوء الإدارة والتقدير، من قِبَل البلديات وشركة توزيع الكهرباء، ولا سيما حادثة وفاة المواطن شادي أبو قوطة (48 عاماً) مقتولاً تحت جدار منزله، بعدما شرعت بلدية خان يونس في حملة لإزالة التعديات، وقبلها وفاة المسنّ عطايا بركة (83 عاماً) بعدما أقدمت شركة توزيع الكهرباء على قطع التيار الكهربائي عن منزله، وركبت عداداً ذكياً مسبق الدفع. كلّ ذلك يُضاف إليه تفشّي البطالة والفقر، وتدنّي مستوى الدخل، وملاحقة البلديات لأصحاب البسطات، والحرص الشديد على مضاعفة الجباية من جيوب المواطنين الفارغة، والانقطاع الطويل للكهرباء وسط أجواء الصيف الحارقة. على أن الموجة الأخيرة من التظاهر لم تكن عفوية ولا بريئة بالمطلق، إذ إن من حدّد موعدها، وأماكن التجمّع فيها، وحتى آليات الاحتجاج خلالها، هم مجموعة من المؤثرين في مواقع التواصل الاجتماعي، الذين يربطهم عامل مشترك واحد، هو العداء الشخصي الشديد لحركة «حماس»، والانحياز المطلق إلى خصمها السياسي المتمثّل في حركة «فتح»، والإقامة خارج القطاع. وبالنظر إلى هذه الحيثيات، فإن أيّ حراك داخلي في غزة يوضع في قفص الاتهام سلفاً، وذلك تأسيساً على حالة الاستقطاب الحادّة بين الخصمين السياسيين، ومحاولة كلّ طرف تسجيل نقاط في مرمى الآخر. وممّا يزيد المشهد التباساً، التحوّل السريع في لغة الشعارات، من المطالبة بالحقوق المعيشية الجمعية، إلى مهاجمة حركة «حماس» وإطلاق الشعارات الحزبية ضدّها، علاوة على تصدّر عائلات «فتحاوية» لديها خصومة قديمة مع «حماس»، المشهد. وفي مقابل ما تَقدّم، لجأت «حماس» إلى دعوة أنصارها إلى تظاهرات شعبية، تواجهت مع تظاهرات الطرف الآخر، ليتحوّل الشارع إلى ميدان اقتتال بالحجارة والعصيّ.
لا يمكن حجب التقصير الذي يسم أداء الجهات المعنيّة في قطاع غزة


وإذ بات الشارع الغزاوي مدركاً أن أيّ حراك يتصدّره «سين وصاد وعين» من نشطاء التواصل الاجتماعي، سينتهي قبل أن يبدأ، بالنظر إلى أن الأطروحات التي يقدّمها هؤلاء ليست منسجمة مع توجّهات الشارع ونبضه، حيال قضايا تحظى بإجماع فطري، من مثل المقاومة وإطلاق الصواريخ والردّ على عمليات الاغتيال، فإن منظّمي حَراك الثلاثين من تموز، لم يحصدوا سوى الصورة، والمقصود هنا، صورة قمع المحتجّين وملاحقتهم في الشوارع، ودفع البسطاء إلى مواجهة البسطاء. لكن أبعد من ذلك، فإن ما شهدته غزة ولا تزال لا يمكن فصله عن مجمل الظروف التي تعيشها مختلف العواصم التي تنشط فيها حركات وجماعات مقاومة، في ما بات يمثّل نموذجاً تتشارك في تعزيزه كلّ الأطراف المناوئة للمقاومة، وعنوانه أن أيّ منطقة أو جمهور يسير عكس التيّار الإسرائيلي، في سوريا ولبنان والعراق واليمن وصولاً إلى غزة، محكوم عليه أن يعيش في ظروف معيشية قاسية، بل وشديدة القساوة.
ولمّا فشلت الضفة الغربية في تقديم نموذج «الرفاه تحت الاحتلال» الذي عملت دولة الاحتلال على تعزيز قشوره خلال الـ15 عاماً الماضية، من خلال رفع المستوى المعيشي، والتساهل في منح تصاريح العمل في الداخل المحتل، وتسهيل السفر إلى أيّ بقعة من العالم، وتعزيز قطاعات التكنولوجيا والاتصال والترفيه، واصطدم الشارع «الضفاوي» بحقيقة الإلهاء التي سيمرَّر من تحت عباءتها المشروع الاستيطاني الكبير، في ظلّ غياب أيّ برنامج وطني لدى السلطة الفلسطينية هناك، وانحصار دورها في تقديم الخدمات الأمنية ورعاية الشؤون المدنية للسكّان، كان لا بدّ من أن يعاد تعويم نموذج القطاع، على أنه الأسوأ على الإطلاق، وأن ظروف السكّان فيه في ظلّ ممارسات «الحكم غير الرشيد»، المشفوع بالتمسّك بمقاومة إسرائيل، لا يضاهيها قعر.
إزاء ذلك، لا يمكن حجب التقصير الذي يسم أداء الجهات المعنيّة في قطاع غزة، والتي تكاد مطالب الشارع منها تنحصر في القول إن «توزيع الظلم... عدل»، وإن «تقاسم المعاناة... رفاه». على أن ما يسجَّل لتلك الجهات، هو المسارعة في معالجة تداعيات الأزمات، عبر إقالة «لجنة متابعة العمل الحكومي»، رئيس بلدية خان يونس والمجلس البلدي برمته، وإخضاع إجراءات إزالة التعديات لمزيد من الصرامة، وتخفيف إجراءات الجباية وتركيب العدادات الذكية وتسجيل المخالفات المرورية.