تختلف المقاربة الإسرائيلية لواقع قطاع غزة، عن رؤية السلطة الفلسطينية له. ففيما تحاول الأخيرة استعادة القطاع من سيطرة حركة «حماس»، وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل عام 2007، يرى الإسرائيليون أن الانقسام الفلسطيني الداخلي، هو «هدية السماء لشعب الله المختار». ولذا، فإن المحافظة على واقع التشظّي القائم، وعرقلة أيّ جهود قائمة لإتمام المصالحة الفلسطينية، إنّما تمثّلان سياسة إسرائيلية، أصبحت خلال السنوات الثمانية الأخيرة، أي بعد فشل اتفاق الشاطئ عام 2015، واتفاق القاهرة عام 2017، واضحة، إلى الحدّ الذي بدأ يقرّ معه قادة حركتَي «حماس» و«فتح» بوجود «فيتو» إسرائيلي على إتمام المصالحة. الإسرائيليون لا يرون أن ثمّة بقعة يحق للفلسطينيين أن يحكموها بشكل ذاتي، ويقيموا فيها دولة، سوى قطاع غزة، وممّا يساوق ذلك ما كشفه القيادي في حركة «حماس»، موسى أبو مرزوق، أخيراً، من تقديم الإدارة الأميركية في عهد الرئيس السابق، دونالد ترامب، مقترحاً رفضته الحركة، ينصّ على توسيع القطاع إلى 700 كيلومتر على حساب أراضي شبه جزيرة سيناء، وإقامة دولة فلسطينية على هذه المساحة. على أن كلّ تلك الأطروحات كانت ولا تزال وستبقى، حبيسة الأفكار والأمنيات، طالما أن حركة «حماس»، ومن خلفها فصائل المقاومة، تتمسّك بموقفها الرافض لها.
إزاء ما تَقدّم، بدا واضحاً أن الإسرائيليين، ومنذ انتهاء معركة «سيف القدس» في عام 2021، يحاولون إدارة المشكلة القائمة في القطاع، أو بالمعنى الأوضح، التعايش مع وجود حركة «حماس» وذراعها العسكرية، كقوة تَحكم غزة، وتتمسّك بمواقفها الوطنية، وبسلاحها المقاوم، وذلك من خلال مواصلة تقييد حرية استخدام السلاح، وإغراق الحركة في مهمّة إدارة شؤون أكثر من مليونَي إنسان محاصَرين بالأزمات. وعلى طريق توليد صراع الأولويات هذا، سعت إسرائيل، خلال حروبها الأربع (2009، 2012، 2014، 2021) وما بينها من جولات قتال تجاوز عددها الـ30، إلى صناعة الظروف التي تجبر «حماس» على التفكير ملياً قبل إطلاق النار، وخصوصاً أن ثمّة أكثر من 1600 عائلة دُمّرت منازلها بشكل كامل في حرب عام 2014، و50 ألف عائلة دُمّرت منازلها بشكل جزئي بليغ، لم تتلقّ إلى اليوم أيّ تعويضات، فضلاً عن أكثر من 10 أبراج سكنية والمئات من المنشآت الاقتصادية والمصانع والمتاجر المدمّرة.
المزعج، وفق التقدير الإسرائيلي، أن الظروف التي تقيّد «حماس» لا تدفعها إلى تغيير واقع القطاع، كنقطة ارتكاز للمقاومة


أمام ذلك كلّه، قدّم الاحتلال، عقب حرب عام 2021، «لغزة ما يمكن أن تخاف خسارته في حال توجّهت إلى القتال»، وفق التعبير الإسرائيلي الذي تَكرّر على لسان أكثر من مسؤول. إذ سمح، للمرة الأولى منذ انتهاء الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2005، بدخول نحو 17 ألف عامل من القطاع إلى الداخل المحتلّ، حيث يتلقّى هؤلاء أجرة عمل أسبوعية، تتجاوز في مجموعها ضعفَي ما يمكن أن يحصل عليه الموظف الحكومي خلال شهر كامل. كذلك، أعلنت سلطت العدو، أخيراً، نيّتها فتح المجال أمام سكّان القطاع للسفر عبر مطار رامون.
بالنتيجة، تشتري إسرائيل الهدوء، وتستثمر في فقراء غزة من خلال توفير بديل آخر غير الانخراط في صفوف المقاومة، كما تتطلّع إلى تركيز العبء الأمني على مكون محدود في الشارع يتمثّل في حركة «الجهاد الإسلامي» التي تنتهج تكتيك الإشغال ومنع استقرار الاحتلال، لكن السؤال الذي يطرحه الإسرائيليون على أنفسهم اليوم، هو إلى أيّ مدى يمكن لهذه السياسة أن تستمرّ، إذا كانت «حماس» ستبقى هي نفسها؟ لا أحد في الواقع يمتلك الإجابة. أمّا في أوساط المقاومة، والمحلّلين وأصحاب الرأي الفلسطينيين، فإن ثمّة قناعة بأن الانفتاح الاقتصادي الإسرائيلي على غزة، والذي يحمل السِمة الاستراتيجية، وإنْ حقّق مكتسبات آنية نجحت في تقييد المشاركة «الحمساوية» المباشرة في جولات 2022 و2023، إلّا أنه لم يحوّل عناصر الأجهزة الأمنية في غزة، إلى جهاز أمن وقائي مماثل لما هو قائم في طولكرم وجنين.
باختصار، المزعج، وفق التقدير الإسرائيلي، أن الظروف التي تقيّد «حماس» لا تدفعها إلى تغيير واقع القطاع، كنقطة ارتكاز للمقاومة في فلسطين كلّها؛ إذ لم تمنع الحركة «الجهاد الإسلامي» مثلاً من إطلاق الصواريخ من القطاع، أو من إدارة ملفّ الضفة الغربية من غزة، بل ولم ترتدع «حماس» عن أن تعمل بكلّ طاقتها في بناء خلايا المقاومة في الضفة، وتنفيذ عمليات دقيقة وموجعة في بعض المستوطنات وحتى العمق المحتل. وفي ظلّ عدم وجود أيّ أفق سياسي، ورفض «حماس» إعادة إنتاج تجربة «منظمة التحرير»، فإن الاستثمار الإسرائيلي في أزمات القطاع سيبقى تمضية لوقت مستقطع، يدرك الجميع أنها تخضع لحسابات ظرفية لا أحد يعلم أيّ فتيل سيتكفّل بنسفها.