في نظرةٍ سريعة إلى تطوّرات العلاقات السورية - التركية، في الآونة الأخيرة، يكاد يسود انطباع بأنها عادت إلى المربّع الأول. فالمواقف الصادرة عن الجانبَين تعكس انسداداً كاملاً في جدار العلاقات، فيما تتزايد التحرّكات العسكرية التركية المترافقة مع القصف المدفعي والغارات بالمسيّرات، وتستعيد التنظيمات الإرهابية، مِن مثل «داعش»، توازياً، حضورها في الساحة السورية. وزيادة على ذلك، تواكب عدمَ الاستقرار، كتاباتٌ من أوساط «حزب العدالة والتنمية» تهدّد بالعودة إلى حلب، بل وبالسيطرة حتى على كلّ من حمص وحماة، ولو من طريق نشر قوات تابعة للأمم المتحدة أو أخرى دولية.ولا شكّ في أن تصريحات الرئيس السوري، بشار الأسد، في مقابلته الأخيرة مع تلفزيون «سكاي نيوز عربية»، كانت شديدة الوضوح إزاء مسألة اشتراط الانسحاب التركي من سوريا، قبل الشروع في أيّ مفاوضات، فيما جلّى الانسدادَ القائم تأكيده أن «تركيا لا تريد الانسحاب، بل إضفاء مشروعية على احتلالها للأراضي السورية»، واتّهامه إيّاها أيضاً بأنها «المصنع الذي ينتج التطرّف والإرهاب، وعلى رأسه تنظيم داعش». وإذ لم يأتِ الرئيس السوري بجديد في ما صرّح به، غير أن صدور مواقفه هذه بعد حوالى عام من إعلان أنقرة استعدادها للمصالحة مع دمشق، يُعدّ مؤشراً قويّاً إلى اتّجاه الأوضاع بين البلدَين نحو مزيد من التصعيد، إذ لا يبدو أن أيّ تقدُّم أُحرز في الاجتماعات الكثيرة التي عُقدت بينهما، تارةً على مستوى وزراء الدفاع، وتارةً أخرى على مستوى وزراء الخارجية أو نوابهم. وممّا يزيد حدةّ التشاؤم، أن تلك الاجتماعات عُقدت برعاية كلّ من روسيا وإيران، وبمشاركة وزرائهما، ومع ذلك، فهي لم تسفر عن شيء.
واكتفت تركيا، خلال العام الماضي، بالقول إنها لا تضع أيّ شرط مسبق للتفاوض مع سوريا، وهو ما يمكن أن يكون مقبولاً بين فريقَين متوازنَين؛ لكن أن يتحدّث طرف تحتلّ قواته جزءاً كبيراً من أراضي الطرف الآخر، عن «عدم الاشتراط المسبق»، فهذا يُعدّ تلاعباً بمعايير التكافؤ. وقد جاءت التصريحات الأخيرة للرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، ووزير خارجيته، حاقان فيدان، لتؤكد أن السياسات التركية السابقة على إعادة انتخاب إردوغان رئيساً، لا تزال تتحكّم بموقف أنقرة: فالجيش التركي لن ينسحب من سوريا إلّا إذا لم يَعُد هناك وجود لأيٍّ من مقاتلي «قوات حماية الشعب» الكردية، ما يعني عمليّاً أن الانسحاب غير وارد في المدى المنظور، مع التذكير هنا بأن تلك القوات الكردية واقعةٌ تحت رعاية مباشرة من واشنطن، وأن التخلّص منها يتطلّب انعطافة كبيرة في موقف هذه الأخيرة التي لا تبدو في وارد التخلّي عن ورقة لا تزال تعتبرها ضرورية لاستراتيجيتها في سوريا، وفي المنطقة ككلّ. كما لا يبدو أن إردوغان، ولا سيما في خضمّ سعيه إلى الخروج من الأزمة الاقتصادية في بلاده، في وارد الدخول في صدام مع الولايات المتحدة التي أعلنت جهاراً معارضتها عملية المصالحة التركية - السورية.
تَبيّن أخيراً أن تركيا لا تزال متمسّكة بالمحدّدات القديمة لموقفها من الأزمة في سوريا


في المقابل، لا تأتي أنقرة على ذكر وجود آلاف المسلّحين في إدلب والمناطق التي تسيطر عليها، في ما يؤشّر إلى أنها لا تزال تحتاج إلى هؤلاء في أكثر من مكان لتحارب بهم. أمّا القضيّة الأكثر دلالة على تعنّت تركيا، فهي قضيّة اللاجئين، إذ لا تنتظر بدء المفاوضات مع الحكومة السورية للتنسيق في شأن حلّ هذه المعضلة، بل هي تقرّر طريقة «الحلّ» وآليته: أن يعود جزء من اللاجئين من ذوي الانتماءات المحدّدة عرقيّاً ومذهبيّاً إلى مناطق محدّدة - ليست مناطقهم الأصلية - في شمال غرب وشرق سوريا، حيث تُقام لهم مجمّعات سكنية جاهزة بتمويل من قطر. وفي المحصّلة، يتبيّن أن تركيا لا تزال متمسّكة بالمحدّدات القديمة لموقفها من الأزمة في سوريا، لا بل هي تعود، حتى على الصعيدَين العسكري والإعلامي، إلى مربّعها الأول. ومن ذلك مثلاً: الهجمات بالمسيّرات على مراكز للجيش السوري؛ والهجمات التي شنّتها تنظيمات إرهابية في إدلب على مواقع للجيش السوري بالتزامن مع هجمات «داعش» الدموية.
وعلى الصعيد السياسي، لا تزال تركيا تحتفظ بورقة «الإخوان المسلمين»، ولا سيما بعد لقاء إردوغان بقادة منهم ضمن «هيئة علماء المسلمين». وإذا كان هذا اللقاء «نذير شؤم» بالنسبة إلى مصر التي تشترط تخلّي تركيا عن «الإخوان» - وهذا من أسباب تعثّر ملفّ المصالحة بين البلدَين -، فهو مؤشّر أيضاً إلى أن إردوغان ليس في وارد التخلّي الآن عن الجماعة التي كان يمسك بها ورقةً لتغيير النظام في سوريا. ويُضاف إلى ما تَقدّم ما يخرج به بعض الكتّاب الأتراك الذين هم في الأساس مسؤولون ومستشارون في «حزب العدالة والتنمية»، من «أفكار» تبدو أقرب إلى تهويمات، مِن مِثل ما أورده ياسين آقتاي، أحد قياديي الحزب، في مقالة في صحيفة «يني شفق» بعنوان «اللغة التي يستحقّها الأسد». إذ بعد تذكيره القرّاء بأن «مشكلات المنطقة المستعصية، والتي لم يستطع أن يحلّها حتى سيف الإسكندر، تحتاج إلى تجربة سياسات مختلفة، وإلى شجاعة لاتّباع الأساليب الديبلوماسية، وهذه الشجاعة امتلكها رجب طيب إردوغان عندما ذهب إلى المصالحة مع الكثير من دول المنطقة»، وأعلن، في إحدى جولاته الخارجية، أنه «ليس هناك وضع يحول دون اللقاء مع الأسد»، فهو يعتبر أنه تَبيّن أنه «لا الأسد يستحقّ مثل هذا الموقف ولا الأوضاع في سوريا» تسمح.
ووفق أقتاي، فإن قبول عودة الرئيس السوري إلى «جامعة الدول العربية» من دون محاسبته على أفعاله، وضعٌ يطرح التساؤل حول وجود الجامعة في ذاته. ويتساءل الكاتب: «ألا يجب أن تخجل الجامعة العربية من الوضع الذي وصلت إليه الدول العربية؟ ألا يتطلّب انتشال الأمّة العربية من الفقر والجوع والهجرة نخوةً من الجامعة؟ وأكثر من ذلك، إن مدّ إردوغان يده إلى المصالحة، قابله الأسد بالقول إنه ليس هناك ما يوجب اللقاء مع إردوغان قبل انسحاب الجيش التركي من سوريا، متّهماً تركيا بأنها تريد تشريع وجودها في سوريا»، مضيفاً: «لقد نسي الأسد كلّ الدول الموجودة في سوريا من الولايات المتحدة وروسيا وإيران والتنظيمات الإرهابية من داعش إلى حزب العمال الكردستاني، ولم يتذكّر سوى تركيا». ويرى أقتاي أن «ما يجبر تركيا على البقاء في سوريا هو منع استمرار هجرة اللاجئين إليها»، منتهياً إلى القول إن «حلّ مشكلة اللاجئين يتطلّب أولاً وقبل كل شيء ضمان سلامة مَن يريد العودة منهم. وقد نجحت تركيا جزئيّاً في حلّ أزمة المناطق الآمنة للّاجئين بالعمليات العسكرية المتكرّرة التي قامت بها»، ولكن «ما دام الأسد موجوداً هناك، فإن مليوناً ونصف مليون لاجئ لن يستطيعوا العودة إلى ديارهم. ولا معنى لمدّ اليد إلى الأسد. على تركيا أن تبدأ بالمطالبة بإقامة مناطق آمنة وأن تضع حلب وحتى حمص وحماه تحت إشرافها (أو تحت إشراف الأمم المتحدة)»، على حدّ تعبيره.