[توصيات ونداء لاستمرار التضامن مع أطفال وأهالي مخيّم جنين]
احترت جداً في كتابة هذه المقالة، فقد وجدت صعوبة كبيرة في الكتابة عن الواقع المعيش في مخيم جنين. ليالٍ عدّة وأنا أفكر كيف لي أن أكتب مقالة تصوّر ما رأيته، وما سمعته، وما شعرت به لدى زيارتي لمخيم جنين؟ تارة، كنت أتخلى عن الفكرة، وطوراً في التخلي عن الفكرة. أشعر بذنب يرتبط بالتواطؤ مع حالة التعتيم والمحو التي يساهم بها بعضنا والعالم أجمع نحونا، وفي تارة أخرى، أحيل ما لديّ من صعوبة في الكتابة لانغماسي في الكتابة الأكاديمية لسنوات؛ والتي وإن كانت تساهم في فهم الواقع، إلا أنها في الوقت ذاته تغترب عنه شيئاً فشيئاً، وتخلق بمناهجها فجوة قسرية - إن صح التعبير - بين ما ينتجه الأكاديمي من معرفة، وبين المجتمع الذي يتناوله في دراساته.
وقد تعود صعوبة الكتابة في هذا الشأن، إلى صعوبة واستعصاء فهم واقع المخيم ذاته، بتعقيداته السياسية الجمّة، والتي لا يستطيع الإعلامي أو الأكاديمي تصويرها أو نقلها بشفافية، قلقاً من التحدث نيابة عن أصحاب الشأن في المخيم، وقلقاً من الوقوع في فخ قراءة اجتماعية سياسية خاطئة من زيارة واحدة، قد تغذّي رؤى القوى القمعية مهما كانت، وأينما كانت، من أسفل الهرم الى رأسه ومن خارجه أيضاً. ولفك هذه الحيرة، ارتأيت بالنهاية أن أصوّر بالكلمات بعضاً مما جاء في الزيارة، من دون تحليل، وبعيداً عن النقاشات السياسية التي تضمنتها الزيارة، وذلك رغم إيماني بعجز هذه الكلمات عن نقل الصورة الحية النابضة للواقع الأليم في المخيم، وأرجو من الذين لا يقوون على الألم عدم استكمال قراءة المقالة، وخاصة لدى وصف مجريات زيارة البيت الثاني. وبهدف التركيز على الفكرة الكامنة في تلك التجارب المريرة، تم استخدام الأسماء المستعارة في سرد هذه الشهادات الحية.
وللتوضيح قبل البدء: إن التركيز في ما هو قادم بالمقالة على التجارب الأليمة التي مرّ بها الأهالي والأطفال في مخيم جنين، وعلى التحديات النفسية التي تواجه الأهالي والعاملين في الخدمات النفسية والاجتماعية بعد انتهاء الاجتياح، لا يتعارض مع حالة الصمود داخل المخيم، فلا التركيز على الألم ينفي حالة الصمود الجماعي، ولا العكس كذلك.

مجريات زيارة المخيم في تاريخ 18 تموز 2023:
بالقرب من بوابة المخيم، سرت مع الزملاء بخطوات مترددة، ممزوجة بالرهبة والقلق، وبرغبة شديدة مزدوجة، تفيد بالمضيّ قدماً نحو المخيم، أو بالتوقف والعودة من حيث أتيت، لأن عبور البوابة نحو المخيم يعني أن تكون الشاهد على الألم، يعني أنك من الخارج، وأن هنالك فلسطينياً وفلسطينياً آخر، وأن هنالك درجات من القمع والعنف الاستعماري صاغت تجارب تاريخية مختلفة في المناطق الفلسطينية كوّنت بين الضحايا متفرجين في ذات السجن.
التقينا بالاختصاصية النفسية هديل خنفر على بوابة المخيم، والتي حَظيتُ بالتعرف عليها وعلى تجربتها في الميدان، من خلال تدريسي لمساق حول التدخل المجتمعي ضمن برنامج الماجستير في علم النفس المجتمعي في جامعة بيرزيت، - إذ كانت هديل من بين مجموعة مميزة من الطالبات، معظمهن نساء عاملات وناشطات ميدانياً في تقديم الخدمات النفسية والاجتماعية لفئات مختلفة من المجتمع الفلسطيني من جنين إلى الخليل - وبدأنا بالمشي برفقة هديل لزيارة رَتّبَتها مسبقاً لثلاث عائلات أطفال من المخيم، ومنذ أن خطونا الخطوة الأولى بعد عبور البوابة، سمعنا عبارات الترحيب من هنا وهناك، وكان هنالك رجل مسنّ يتحدث وهو يمشي مقترباً إلينا: «أهلاً بكم، أهلاً وسهلاً، شو بدكم تشوفوا، إحنا ناس ما بنآذي حدى، إحنا بنحبّ الخير لكل الناس في العالم، ما عنا مشكلة مع الديانات كلها، بس مشكلتنا مع الاحتلال، بدنا يبطلوا أذى، قلوبنا موجوعة، قلوبنا منكوبة، دمروا المخيم، احنا تعبانين،...، أنا ابنى استشهد باجتياح الـ 2002 ، ابني طار وتمزع قطع، عندي صور لإيديه وصور لإجريه كل شي لحال، ...، بدكم تحكوا مع أهل المخيم؟ احكوا، رح تشوفوا انو كل الأهالي، الآباء والأمهات بالمخيم، كلنا عنا أمراض ضغط وسكري، كلنا قلوبنا محروقة على ولادنا، ...، تفضلوا نشربكم إشي، تعالوا نضيّفكم، أهلاً وسهلاً»، بعد سماع هذه الكلمات، انهمرت دموعنا قسراً منذ اللحظة الأولى، وهنا أدركت أنه لا داعي لترتيب مسبق لدينا لانتقاء كلمات المساندة والمواساة المناسبة أثناء الزيارة، بل إن مفتاح الدخول إلى المخيم، يتمثل بترك كل الكلام على البوابة والدخول إلى المخيم بالقلب فقط.
في شوارع المخيم

مشينا قليلاً في المخيم وصولاً إلى بيت الطفلة لارا، والتي تبلغ من العمر 8 سنوات، لا باب لمنزلها، فقد تم تفجيره، نادت هديل من الخارج وجاءت أم الطفلة لارا تستقبلنا، تشرح لنا السيدة «أم لارا» ما حدث للمنزل أثناء دخولنا، فتشير إلى حفرة في ذلك الحائط، وإلى رصاصات هنا وهناك، وإلى تحطيم ممتلكات المنزل، وإلى أدوات مطبخ ومقتنيات لم تعد موجودة،..، ثم جلسنا في غرفة تم توضيبها أخيراً بعد الاجتياح، تنادي الأم على لارا، تسعد لارا بلقاء هديل بابتسامة خجولة، تجلس الأم، تتحدث والدموع تنهمر من عينيها طوال الوقت، فقد بدا لي أن عيونها تذرف الدمع بشكل تلقائي مستمر، فلا تقوم بمسحها أو الانتباه إليها أثناء حديثها، وكأنها اعتادت عليها. ثم حدثتنا الأم عن لارا وعن تبعات الاجتياح: «ما خلّوا إشي، ألعابها كسّروها، وكتبها مزعوها، ومريولها للمدرسة كمان ممزع»، «بنتي ما بدها تروح على المدرسة، بتخاف»، طلبت الأم من لارا الحديث، وبدأت الفتاة بالحديث بخجل عما حدث، الطفلة تتحدث عن موت أرنبها ودراجتها وألعابها التي أتلفها الجنود، أثناء ذلك، دخل والد لارا ، واستكمل ثلاثتهم الحديث، وأضاف الوالد: «طخوا أرنب لارا ، و(آي بادها) كسّروه، وباسكليتها بالشارع زتوه، وهرسوه بالجرافة»، ويستكمل حديثه: «لما فاتوا على الشارع رحت فتحت باب الدار علشان ما يفجروه ولا يفجروا مدخل البيت، وفجروه، والله من أسبوع بلطته بلاط جديد»، ...، ثم عاد الزوجان لوصف المشاكل التي تواجه أطفالهم حالياً، وعبرّا عن حاجتهما لمساعدة أطفالهم لتخطي هذه المرحلة، ومن ثم دار نقاش بيننا مع هديل حول مشاكل الأطفال الأكثر تكراراً بالمخيم، والتي تجلت بمظاهر أعراض الصدمة التالية: التبول اللاإرادي، وعدم القدرة على النوم، ورفض الذهاب إلى المدرسة (للتوضيح: مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين تعمل في الصيف بسبب حالة الإضراب السابقة)، ورفض الخروج من المنزل، أو الرغبة الشديدة في البقاء بمراكز الإيواء خارج المخيم، إضافة إلى مظاهر الصمت المستمر (السرحان)، والصراخ بشدة بلا سبب، وعدم القدرة على إتمام الحديث، ونسيان أمور أساسية كعدم معرفة العمر لدى السؤال، وهنا أورد الأب عن طفلته: «لارا لا تستطيع النوم بتاتاً إلا إذا حضنتها»، ومن ثم عدنا لنقاش ما جرى بالمخيم الى أن خرجنا من البيت، وقبل خروجنا أصرّ الزوجان بشدة على بقائنا لاستكمال حسن الضيافة والعودة لزيارة أخرى، ونحن أصررنا بدورنا على شكرهما وشكر لارا لاستقبالنا ولمشاركة ما حدث معنا.
مشينا ونحن ننظر إلى الضرر الهائل الذي خلّفه الاجتياح في بيوت وشوارع المخيم، وقبل زيارتنا للمنزل الثاني، أوضحت لنا هديل أن العائلة الثانية التي ننوي زيارتها شهدت أقصى درجات العنف والترهيب، ...، دخلنا إلى المنزل ورحّبت بنا الأم «أحلام» كثيراً، ثم جلسنا، وتأكدت هديل بأسلوبها من رغبة أحلام بمشاركة قصتها معنا وجاهزيتها لذلك، بدأت السيدة بسرد ما جرى مطولاً، ولعل سردها المطوّل لم يكن كافياً لوصف ما مرت به وعائلتها، من تعذيب نفسي وجسدي لا يمكن تصوره، سأحاول في ما يلي نقل جزء مما ورد في شهادة أحلام التي روتها لنا بدموعها:
«كنا في المنزل أنا وزوجي وابنى خالد 15 سنة، وابنتي ليان 17 سنة، وابني رامي 10 سنوات، سمعنا صوت الجنود في الحارة في صباح اليوم التالي للاجتياح، طلع زوجي ليفتح الباب حتى لا يفجروه، لكنهم فجروا الباب واختفى زوجي وما رجع بعد التفجير (كان الجنود قد احتجزوا الزوج، لكن أحلام والأطفال لم يعلموا مصيره في تلك اللحظة)»،...، أكملت أحلام: «دخل عنا في البيت حوالي 45 جندي، معهم كلاب مدربة، أنا وولادي لاحظنا أن الكلاب بدت بالهجوم علينا، واحد من الولاد قدر يتخبى بسرعة بغرفة النوم هناك، وبنتي قدرت تحمي أخوها الصغير رامي وزقته بالحمام وسكرت الباب عليه بسرعة، هاجمتنا الكلاب أنا وبنتي في هديك الغرفة»، أحلام تتنفس بصعوبة أثناء وصفها لما حصل، وتكمل «لمدة ساعة وأنا وبنتي مع الكلاب المتوحشة والجنود موجودين بالبيت وما عملوا ولا إشي،...، بتفرجوا»، أظهرت لنا احلام آثار عضات الكلاب على يدها ورأسها، وشرحت لنا كيف اقتلع الكلب «طاحونتها» بعدما رماها أرضاً، وكيف نهش الكلب فك ابنتها، وتشرح عن الدماء التي سالت منهما، وتشرح وتبكي ونحن نبكي، وأكملت أحلام بأنه بعد حوالي ساعة، أمر الجنود كلابهم بالتوقف واستجابت الكلاب،...، وقام الجنود بعدها بجمع الأم مع أطفالها في غرفة الضيوف، غير مكترثين لحالها بعد هجوم الكلاب، ولحال الأطفال، قالت أحلام: «خفت كتير على ابني الصغير، قعد حدّي هون يحكيلي يما قلبي وقف...»، بعد ذلك أخذهم الجنود معهم، ووضعوا أحلام وأطفالها خلف شبابيك المنزل (في كلا الطابقين) لكي يقفوا أمامهم كدروع بشرية، وأضافت: «وحطوا ابني خالد في غرفة لأنه رفض يجي معنا، وربطوا ايديه بالكلابشات وخلوا الكلاب تهجم عليه...»،...، ووصفت بمرارة شعورها بالخوف على أطفالها في حينها والصدمة المستمرة من كل ما يحدث، كما وصفت أحلام لنا العتاد العسكري الذي أحضره الجنود للمنزل، ووصفت أكل الجنود لطعامهم أمامهم، ووصفت تخريبهم للمنزل وللمقتنيات، وأكملت: «بعد هيك، جمعنا الجنود في غرفة واحدة أنا والأولاد، وزتوا قنبلة غاز بيننا، وسكروا باب الغرفة علينا، لحوالي ربع ساعة، كنا بنموت أنا والولاد، أنا حسيت إني بموت وروحي بتطلع،...، وفتحوا الباب علينا بآخر لحظة، كأنهم عارفين ويبنا يفتحوا قبل الموت بلحظة»، ...، وأكملت أحلام ما حدث بعدها، وصولاً إلى خروج الجنود من المنزل، واستجابتها وعائلتها لطلب إخلاء المخيم ليلاً، والذي سمعت به عائلة أحلام بشكل متأخر جداً عن بقية العائلات، لتعرضهم للتعذيب المذكور، ولتدمير وسائل الاتصال بالمنزل، ولقطع الكهرباء عن بيوت المخيم، ووصفت لنا أحلام صعوبة التفكير باللحظة المناسبة للخروج من البيت والألم النفسي المرافق لرفع الرايات البيض أثناء الخروج، في مشهد يكرر النكبة من جديد كما جاء على لسانها.
أظهرت لنا أحلام آثار عضّات الكلاب على يدها ورأسها، وشرحت لنا كيف اقتلع الكلب «طاحونتها» بعدما رماها أرضاً، وكيف نهش الكلب فكّ ابنتها


أما الطفل رامي الذي تطمئن عليه هديل باستمرار، وتشجعه على الخروج من المنزل والاشتراك في الأنشطة مع بقية الأطفال، فقد كان موجوداً معنا طوال مدة الزيارة، لكنه لم يرغب في الاستجابة لوالدته والحديث عن تجربته معنا، وبالطبع احترمنا رغبته، وتحدثنا بأمر آخر معه لا علاقة له بالاجتياح وتبعاته. بالطبع لم تكن مشاركة أحلام لنا بما حدث معها أمراً يسيراً، فتجربتها قاسية لا يتصورها العقل، لكن أحلام رغبت بشدة أن يعلم الناس ما حدث لها ولأطفالها، أحلام تحتاج إلى استرداد الشعور بالأمان. ولدى لحظة خروجنا من المنزل، لم يكن سهلاً عليها أن نذهب، ولم يكن سهلاً علينا ذلك أيضاً، لأن تركها وحيدة مع الأطفال في المنزل يعني عدم الأمان بالنسبة إليها، ويعني التفكير بمواجهة كل ما ذكر أعلاه مراراً وتكراراً. خرجنا من المنزل، وأحلام تصرّ على استكمال عادات حسن الضيافة طالبة منا أن نعود مرة أخرى.
خرجنا من منزل أحلام مثقلين بالهموم وبالعجز، وانتقلنا لزيارة قصيرة لجمعية «كي لا ننسى» التي تعمل فيها هديل، وهي جمعية تقدم خدمات دعم اجتماعي ونفسي لحوالي 300 طفل/ة في المخيم، كانت زيارتنا في اليوم الأول الذي استأنفت به الجمعية أحد أنشطتها مع الأطفال، وهو «دروس تقوية»، وكان هنالك مجموعة صغيرة من الأطفال تدرس برفقة احدى العاملات بالجمعية، وسرعان ما جاء الأطفال ألينا ليتحدثوا عما حدث لهم ولعائلاتهم، الأطفال يحملون معهم صور أقاربهم الشهداء، والتي شاركوها معنا: «مس أنا استشهد خالي، هيو»، «مس أنا اجوا عنا اعتقلوا أخوتي التنين»، «مس احنا خربوا بيتنا»، وعبّرت زميلات هديل في المؤسسة (السيدات لمياء ومجد وهيفاء) أن مشاركة الأطفال حالياً ضعيفة جداً بأنشطة الجمعية، بسبب خوفهم من ترك المنازل، كما عبّرن أيضاً عن التحديات الجمة التي تواجههن في العمل على الحد من تبعات حالة الصدمة الجماعية لدى الأطفال، ومن خلال زيارة العائلات والنقاش مع هديل وزميلاتها تبيّن أن: حجم الألم لا يوصف بالمخيم، وأن شدة الصدمة حاضرة في عيون سكان المخيم، فالمخيم جريح، ولا يحتاج فقط إلى المساعدات المادية، بل هنالك حاجة ماسة إلى التضامن والتكاتف المجتمعي والمواساة، وبشكل عام ورد في النقاشات ذكر الفارق في درجة وحشية هذا الاجتياح عن سابقيه، بأنه اجتياح عسكري مترافق مع اجتياح نفسي ممنهج وموجّه باتجاه هدم بنية العائلة، عبر تنفيذ عمليات تعذيب جماعي استهدفت النساء والأطفال الصغار واليافعين تحديداً.

في شوارع المخيم

وأخيراً، كانت طريقنا إلى المنزل الثالث هي الأطول مسافة، والأثقل على الصدر، وخاصة بعدما علمنا أننا سنذهب لزيارة عائلة الطفل زين (5 سنوات) والطفلة أمل (10 سنوات)، بعدما استشهد أخوهما زيد (16 سنة) في الاجتياح الأخير، حيث التقينا بشقيقة زيد الأخرى الطفلة حنين (14 سنة) في طريق عودتها من المدرسة إلى المنزل، كانت حنين تضع قلادة عليها صورة زيد. ذهبنا إلى المنزل معها لرؤية الطفلين زين وأمل، وصلنا إلى مدخل المنزل، وفي هذه اللحظة بالتحديد، لا أعتقد أن هنالك شيئاً في الدنيا يمكن أن يخفف من وطأة لقاء أب وأم قد فقدا طفلهما للتوّ، وبسذاجة مفرطة، اعتقدت أن هذا هو أثقل حمل ممكن أن يتعرّض له الوالدان، لكن والد ووالدة زيد، في منزلهما تاريخ من الوجع، والفقد، والعذاب، يرافق هذا التاريخ نبع لا يتوقف من الحب والعطاء، فزيد استشهد في اجتياح تموز 2023، ومن قبله شقيقه زيد استشهد أيضاً في اجتياح نيسان 2002 عن عمر يناهز 14 سنة. هل لي القول إن القلب لم يعد يقوى في تلك اللحظة على الاستمرار، نحن في حضرة وجع شديد، فالأب والأم والإخوة والأخوات مُتعبون، عيونهم تروي المعاناة والألم من دون الحاجة إلى الكلام، الأب يتحدث عن عذاب أبنائه وعن حبه لأبنائه، وعن استعداده لحمايتهم لآخر رمق، وحدّثنا بعمق عن تاريخ طويل من محاولاته المستمرة لحمايتهم، وعن كدحه بالعمل لسنوات لتوفير مقومات منزل دُمرت أمامه في لحظات. حدثنا الزوجان عن زيد، وعن ابتسامة زيد الجميلة، وعن مجريات استشهاده، و و و، وكيف دخل الجنود إلى المنزل، وكيف طلبوا من طفلهما زين ذي الخمس سنوات أن يضع يديه في أذنيه ليقوموا بتفجير باب المنزل أمامه، زين مُتعب، وأكمل الأب في حرقة - لم أر مثيلها في حياتي -: «ونور، ابني نور كمان، ابني نور بحب الحياة وبحب السفر، سافر على العقبة وشرم الشيخ وزار الشط والبحر، وعنده أحلام كبيرة، نور تعرض للتعذيب في هاي الغرفة لثماني ساعات متواصلة، تناوب الجنود في تعذيبه وضربه بالحديد»، الأب: «حاولت مساعدته، أنا بحكي عبري منيح، اشتغلت بإسرائيل زمان، حكيت معهم، ناقشتهم، حكيت عن كذا، وعن كذا، وعن كذا، ما في فايدة ضلّوا يعذّبوه»، نور معتقل الآن، لم يحاكم لأنه بحاجة إلى العلاج وهو في المستشفى حالياً، الأب: «زيد استشهد، ونور معتقل، و...، و...، ولكن ماذا أفعل مع زين؟ ما هو مستقبل زين؟».
صمت وصمت ونقاش وعودة للألم، نقاش، وصمت، وألم، وهكذا استمرت الزيارة، إلى أن خرجنا، ووعدنا العائلة بزيارة أخرى. وأثناء خروجنا، أخذنا الطفل زين والطفلة أمل في جولة حول البيت وداخله، وهما يشرحان لنا حول التخريب الذي حصل، ثم ودّعنا زين وأمل وخرجنا.
نزلنا من البيت، مشينا في طريق العودة بخطى متثاقلة، وكأن الألم استوطن في الروح والجسد. أثناء عودتنا إلى مدخل المخيم، لم يتوقف الأهالي عن الترحيب بنا وعن دعوتنا للزيارة، «اتفضلوا»، وخرج لنا شاب من محله التجاري، مقدماً لنا زجاجات مياه باردة من شدة الحرّ في ذلك اليوم، لا بل من شدة الألم. وصلنا إلى مدخل المخيم، ومن جديد ترتبك المشاعر عند بوابة المخيم، في هذه اللحظة لم أرغب بالخروج من المخيم وتخطّي البوابة، أحاديث كثيرة تتداخل في نفسي، تتضارب، تتساءل عن الـ«نحن» الفلسطيني، وكيف تشرذمت الـ«نحن»، أسئلة متسارعة تستعيد تاريخ علاقة المخيم بمدينة جنين، علاقة مدينة جنين بمدينة رام الله. فهل احتجت وأنا ابنة مدينة جنين إلى أن أتعرف على هديل في رام الله لأجد وسيطاً لزيارة الـ«نحن»؟ أسئلة تطرح بقوة مدى حاجتنا الماسّة إلى العمل على تكاتفنا وتضامننا عبر تقوية أواصر الـ«نحن» نفسياً واجتماعياً، لعلّها تشقّ طريقها يوماً ما إلى ردم فجوات الانقسامات السياسية. أما لمن يريد أن يفهم ما جرى وما يجري في مخيم جنين سياسياً، فلن تسعفه الكلمات أعلاه، ولا أيّ كلمات أخرى نُقلت عن المخيم، فالواقع تراه هناك فقط، تسمع عنه على لسان الأهالي والأطفال في المخيم أنفسهم، بمواقفهم المتباينة جداً والمتشابهة جداً في ذات الوقت، تجاه فكرة البطولة التي يُروّجُ لها مجتمعياً وسياسياً وإعلامياً، والمتمثلة بحالة وجود مخيم أعزل يضع على عاتقه قضية إنسانية وأممية وكونية إن صح التعبير.

توصية:
بعد نقل جزء من واقع الأطفال المَعيش في مخيم جنين في هذه الزيارة، ومن خلال مجريات النقاش مع الأهالي والأطفال، تبين وجود بعض الإشكاليات في شكل ومحتوى التضامن المُقدَّم من قبل بعض المؤسسات والأفراد الناشطين في قضايا الطفولة في المجتمع الفلسطيني. تمثّل ذلك بتنظيم بعض النشاطات الفنية، والرياضية، والموسيقية مباشرة في الفترة الأولى بعد انتهاء الاجتياح، من دون مراعاة للحالة النفسية للأطفال، هذه الأنشطة لم تلائم الكثير من أطفال المخيم، ولم تشعرهم بالارتياح، ما أدى إلى عزوف الأطفال عن المشاركة بشكل عام. برأيي، هذا يدل على عدم وجود استعداد نفسي لدى الأطفال لهذا النوع من الأنشطة التفاعلية الحماسية، لعدم تخطيهم للمراحل الأولى من حالة الصدمة، فهنالك عملية نفسية يجب أن تأخذ مجراها لدى الأطفال، وتختلف من طفل إلى آخر، بحيث إن اشتراك الاطفال بأنشطة فنية وثقافية (غير مدروسة) مباشرة بعد الاجتياح قد يأتي بنتائج عكسية، ناجمة عن عدم مقدرة الأطفال على التفاعل، وبالتالي شعورهم بالعجز عن العودة إلى الوضع السابق للاجتياح، ما يعمق لديهم أعراض الصدمة والشعور بالاختلاف، بدلاً من أن يخفف من تلك المشاعر، لذلك الرجاء الحار من المؤسسات الثقافية والاجتماعية والأفراد الناشطين في قضايا الطفولة، عدم تصميم نشاط أو تدخل مجتمعي من غير تقييم الحالة النفسية لأطفال المخيم واستعداداتهم النفسية أيضاً، لذا يُنصح بزيارة المخيم أولاً، والحديث مع الفئة المستهدفة من الأطفال وأهاليهم حول احتياجاتهم واستعداداتهم للمشاركة، ومن ثم تصميم تدخل مجتمعي، أو نشاط ثقافي ملائم. يُضاف إلى ما سبق، الاحتياج الماس لدى الأهالي في المخيم للمساندة الاجتماعية في تخطيهم لما حدث، فالتفريغ النفسي والتكاتف الاجتماعي احتياج مُلِحّ، وبأبسط حدّ، بالإمكان زيارة الأهالي ومساندتهم بالاستماع إليهم فقط، النساء تحديداً بحاجة إلى المساندة والتضامن من قبل النساء والأمهات الأخريات، ليس بالضرورة أن تكون المساعدات مالية ومادية فقط، بل إن التضامن، والاحتواء، والتواجد من أهم آليات المناصرة والمساندة لتخطي الألم، وإن كان من الصعب تجاوزه.