هل السؤال عن الثقافة أو المثقف هو الصحيح؟ هل حين نتحدّث عن الثقافة الفلسطينية، نتحدّث عن الفلسطيني فقط؟ وقبل ذلك وبعد ذلك، هل يوجد مشروع ثقافي فلسطيني، يمكن التعويل عليه؟ والتعويل هنا، ينسحب على شقين، الأوّل، دور الثقافة الاجتماعي، والثاني، دور الثقافة السياسي.لا تحاول هذه المادة ضمن المساحة المتاحة لها، أن تجيب عن الأسئلة كافة، لكنها ستحاول الإحاطة قليلاً بالإجابات.
(نبيل عناني)

الثقافة أو المثقّف
ما أذهب إليه في معنى الثقافة هنا، هو الأدب والفنون، وعليه فإن هذه المساحة الكبيرة مفتوحة جداً للنقاش فلسطينياً. ولعل أول ما يمكن طرحه عن الإنتاج الثقافي الفلسطيني، هو مدى ملاءمته لمتغيّرات القضية الفلسطينية، ومدى فاعلية هذا الإنتاج الثقافي في الهوية الفلسطينية. فبخصوص الملاءمة، يمكن الذهاب إلى الإيجابية واعتبار أن المنتج الثقافي الفلسطيني، يقدّم فلسطين أمام العالم بصورتها الجميلة المشرقة، كما يقدّم الصراع بروايته الفلسطينية، ويساهم في تفنيد الرواية الصهيونية في العالم. أمّا الذهاب إلى السلبية، فإنه يفتح أسئلة عن الإبداع الفلسطيني الذي يقدّم للعالم، هل يقدّم صيغاً مفهومة وواضحة للمقولة الفلسطينية، أم يضطر للمواربة، وتدوير الزوايا حتى يلقى القبول؟ صحيح أن الفكرة الأخيرة ليست مسؤولية المُبدَع ولا المُبدِع، بل ازدواجية المعايير الثقافية في العالم حين يتعلّق الأمر بنقد إسرائيل (روجيه غارودي على سبيل المثال لا الحصر) إلا أن الحرية التي يحتاج إليها المثقف، ويحارب من أجلها، تجعله أمام مسؤولية حرية الشعوب التي يجب أن يحارب من أجلها في العالم، وأن لا يقبل بأنصاف الحلول، ولا سيما أن هذا الأمر يسهّل على من يريد أن يفرض شروطه «الثقافية» على المثقّف، وبالتالي تصبح الثقافة معلّبة بقالب من الشروط التي يمكن أن تكون مرهونة بالمال الذي قد يحدّ إبداعه.
وهذه النقطة الأخيرة، ساهمت في تأسيس إنتاج فني قائم على «الدفعات» ومرهون بالوقت الذي تحدّده المؤسسات التي تقدّم العطاءات والمنح، كذلك ولو بشكل موارب، تضع مجموعة من المحددات التي تجعل من العمل الإبداعي مقبولاً، وبالتالي قابلاً للانتشار والوصول والتجوال.
ومع أن السلبية موجودة، إلا أنه توجد نماذج، استطاعت أن تقدّم أعمالاً إبداعية متحلّلة من رأس المال الذي يعدّ عليها أنفاسها، ويحدد لها مساحاتها. وهذه النماذج، نجت من تقديم فلسطين كما تريدها المفاهيم التعايشية، تحت مسميات ومبررات عدة، منها احترام الآخر. ومع أن مسألة «الاحترام» تلقى صدى ودغدغة لدى الكثيرين من العاملين في الحقل الثقافي، فيطبّعون مع «الآخر» بذرائع مختلفة، ويقدّمون أنفسهم على أنهم «الشعب الفلسطيني» الذي يريد «السلام»، ومع أن هذه حقيقة، إلا أنها حقيقة ليست بشروط الاحتلال. فيستمر هؤلاء في مغالاتهم «الاحترامية»، ليتسبب بعضهم في مكان آخر بتصعيب المهمة على أي مثقف آخر ذاهب إلى العالم لتقديم الحقيقة، فيصطدم بالكثير من المعوقات، منها المقولات والمفاهيم التي قُدّمت سابقاً عبر مثقف «متعايش» وقابل بالشروط الاحتلالية، فضلاً عما يقدّمه الإعلام الغربي لمتابعيه عن الصراع في فلسطين. ومع ذلك، يتمكّن الفلسطينيون من تجاوز هذه العقبات، ويقدّمون فلسطين كما هي، محتلة من احتلال غاصب، يقتل ويدمّر، ويستعد لاستكمال النكبة بطرد الفلسطينيين من ديارهم، سعياً إلى اللحظة التي يأملها الكيان، وهي «محو فلسطين».

فلسطين والمثقّفون
يبدو أن بعض القضايا الكبرى، لا بد أن تنتج مبدعين كباراً على قدرها. وفلسطين أنتجت منذ الانتداب البريطاني وحتى اليوم عشرات المبدعين في شتى المجالات. هؤلاء قدّموا ويقدّمون إبداعاً عالياً، يليق بقضية فلسطين، وتضحيات شعبها والشعوب العربية من أجلها، ويليق بتضحيات المناضلين من أنحاء العالم الذين قدموا للانضمام إلى ثورة شعبها. ومن بين المبدعين من هم ليسوا فلسطينيين بالهوية المكانية لفلسطين، لكنهم من فلسطين تماماً بالانتماء إلى قضيتها، الياس خوري ورضوى عاشور ومونيكا ماورير وأمجد ناصر وجهاد منصور وقيس الزبيدي وصنع الله إبراهيم وممدوح عدوان وسعدالله ونوس وضياء العزاوي، وفرقة ناس الغيوان المغربية، وغيرهم من الأمثلة الكثيرة. هؤلاء جميعاً، كل في مجاله، قدّموا لفلسطين وقضيتها إبداعات ساهمت في رسم صورة فلسطين في الوعي العربي والعالمي، وبعضهم لم يتوقف عن ذلك لحظة في حياته، حتى بات البعض يعتبره فلسطينياً كالروائي اللبناني الياس خوري الذي ينسبه البعض إلى المدينة أو القرية هذه في فلسطين، فروايته «باب الشمس»، على سبيل المثال لا الحصر، وصلت إلى أصقاع العالم، وعرّفت بفلسطين من لا يعرفها، وأثرها وصل عميقاً في وجدان من يقفون جداراً في مواجهة الاحتلال حين أقام مئات الشبان قرية «باب الشمس» عام 2013 في شرق القدس.
خوري وغيره من الكتّاب الفلسطينيين والعرب وبعض الأجانب، كتبوا عن فلسطين والفلسطينيين، وعن العرب من أجل فلسطين، وعن العالم من أجل فلسطين، لأن المشروع الفلسطيني في مرحلة من المراحل عبّر عنهم، كما عبّر عن قضاياهم المحلية في بلدانهم، ولم يكن بعيداً عنهم، فالصراع مع إسرائيل امتدّ إلى كل العواصم العربية بأشكال مختلفة، أكثر ظهوراً ووضوحاً.
قدّموا ما قدّموه ضمن مشروع نهضوي كبير، له ما له وعليه وما عليه، في أسلوب الإدارة وديمومته، لكنه كان مستمراً، ولم يكن يحمل أدوات موته في داخله، على الأقل حتى ما قبل «أوسلو»


الثورة الفلسطينية التي كانت تقاوم إسرائيل، كانت تعبيراً صارخاً عن التمرد ضد القوة التي وصفت نفسها بأنها لا تُقهر، والأدبيات التي أنتجتها هذه الثورة، كُتبت بأيدي مفكرين ومثقفين فلسطينيين وعرب، عملوا في مركز الأبحاث الفلسطينية ومؤسسة الدراسات الفلسطينية ومؤسسة السينما الفلسطينية، وفي مؤسسات ثقافية وفكرية أخرى، وقدّموا ما قدّموه ضمن مشروع نهضوي كبير، له ما له وعليه وما عليه، في أسلوب الإدارة وديمومته، لكنه كان مستمراً، ولم يكن يحمل أدوات موته في داخله، على الأقل حتى ما قبل «أوسلو». أما ما بعدها، فهناك عدد من المثقفين التابعين للسلطة، وعدد من الذين يعوّل عليهم من المثقفين النقديين الذين لم يرتضوا ما آلت إليه الأمور، أو كانوا يرون أن الأمور آيلة إليه، كإدوارد سعيد، وكمحمود درويش الذي استقال من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، قائلاً في نص استقالته: «إن ضميري لا يتحمل المشاركة في اتخاذ هذا القرار المغامر. وما دمت غير قادر على الإجابة عن الأسئلة المطروحة، لذلك، أتمسك باستقالتي من هيئة اتخاذ القرار، وأضع نفسي تحت تصرف الشعب الفلسطيني ومصالحه الوطنية العليا (...) هل هذه الصفقة هي جزء من اتفاق سلام شامل؟ أو هل تستحق منا التوقيع على معاهدة سلام أو مصالحة تاريخية؟ هل من الواضح أنها مرحلة أولى من تطبيق القرار 242 وفق جدول زمني واضح، وباعتراف واضح بأن هذه الأرض هي أرض محتلة؟ (...) ما هي حدود المرحلة الانتقالية التجريبية؟ هل هي حكم ذاتي بعد النجاح في التجربة والامتحان؟ وماذا لو فشلت؟ وهنا اسمحوا لي أن أحذّر من أن وضعنا الراهن وبنيتنا الحالية يقدمان جواباً سلبياً على هذا السؤال».
نص استقالة درويش من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير كان رؤيوياً، ولم يكن السياسي الفلسطيني (إلا ما ندر) ليرى مثلما يرى المثقف، ولا كان من الممكن أن يستمع السياسي إلى رأيه. ومثل درويش عشرات المثقفين والمفكرين والأكاديميين الفلسطينيين الذين انسحبوا من جولات المباحثات «المدريدية» لانعدام الأفق، والتعنت الإسرائيلي، والدعم الأميركي اللامحدود لإسرائيل. وهذه النتيجة كانت حتمية في الحالة الفلسطينية، فمع «تسيّد» الثقافي في الثورة الفلسطينية، وبروز دوره وعلو كعبه، إلا أنه لم يكن يوماً قادراً على السياسي الذي كان صاحب الرأي والقرار، وهذا لا ينطبق فقط على رأس هرم منظمة التحرير أو حركة «فتح»، بل في كل القوى الفلسطينية التي لم يخلُ معظمها من مثقف مناضل كبير. وتبدو هنا الخلافات بين مدير مركز الأبحاث الفلسطينية الدكتور أنيس صايغ والقائد العام للثورة الفلسطينية ياسر عرفات، والتي سردها في مذكّراته «أنيس صايغ عن أنيس صايغ» (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2006) الدليل الأكبر على الصيغة التي كانت متّبعة.
الأمر ذاته حصل بعد انتقال منظمة التحرير من الثورة إلى «الدولة»، ولعل ختام قصيدة «مديح الظل العالي» لمحمود درويش يبيّن جانباً هاماً ممّا آلت إليه الثقافة والسياسة «ما أكبر الفكرة... ما أصغر الدولة». كان قيام السلطة الفلسطينية سبباً لخلق «مثقف السلطة» على غرار «مثقف السلطات العربية»، وهو ما كان صعباً فهمه في تلك المرحلة (وحتى اليوم في فلسطين والعالم العربي).
المريح اليوم (ربما) أن هناك انتباهة لافتة إلى مسألة الثقافة الفلسطينية ودورها الذي يجب أن تتخذه، ولعل بعض المراجعة للمنتج السينمائي الفلسطيني مثلاً في السنوات الأخيرة، تشير إلى ظهور عدد من المخرجين الفلسطينيين إلى النور، لتقديم مقولتهم الثقافية الوطنية، وهذا لا يعني أن كل الأفلام يمكن أخذها على محمل الجد، فبعضها خضع للتمويل، وقدّم مقولات لا تحتاج إلى مراجعة فقط، بل إلى نقد حادّ وحازم في بعض الأحيان، خاصة أن هناك أفلاماً أساءت إلى الفلسطينيين ومنهم الأسرى. ومثل السينما نرى الرواية في تقدّم، فمثلاً ثلاثية «أولاد الغيتو» لإلياس خوري، عمل عالمي يرفع من شأن الرواية الفلسطينية إلى مصافّ جديدة في الفهم الأخلاقي للصراع.
أمام ذلك، هناك المؤسسة الثقافية الفلسطينية الرسمية، تضرب بسيف الرؤيا السياسية الفلسطينية، وتدافع عنها، وأكثر من ذلك تنظّر لها، وبعض شخصياتها تقدّم مقولات كبيرة في الصراع والمقاومة ودعم المقاومين والانسجام مع المشاريع المقاومة، في حين أن تلك المقولات تتناقض جوهرياً مع ما تفعله السياسة الفلسطينية في أكثر من مجال، ليس آخرها التنسيق الأمني، ولا نشهد لهذه المؤسسة ولا لأشخاصها نقداً للسياسة الفلسطينية في أكثر من مثلبة ومأخذ كبير. وهذه المؤسسات مثلاً لا تقف مدافعة عن مثقف فلسطيني يتعرّض للقمع، سواء من السلطة الفلسطينية أو من سلطة عربية. عدا أن هذه «المؤسسة» انجرّت وراء ما ذهبت إليه السياسة الفلسطينية من تهميش الشتات والأراضي المحتلة سنة 1948، فلم تعد تتابع وتدعم الإنتاج الثقافي في الخارج إلا لماماً وبروتوكولياً كلما اقتضى الظرف، وها هو الإنتاج الفني التشكيلي الفلسطيني في سوريا على سبيل المثال ضاع، ولم تكترث له وزارة الثقافة الفلسطينية، وهناك اليوم مئات المبدعين الفلسطينيين حول العالم، قد لا يحتاج بعضهم إلى رعاية أو دعم، لكنهم يحتاجون على الأقل إلى تمثيل أمام العالم، فتكاد مؤسسة السلطة الثقافية، لا تعرف بهم. وعند هذا الحد، يكاد أن يكون سؤال الهوية الفلسطينية الجامعة، هو السؤال الأبرز. إنّ الهوية الفلسطينية غير مهدّدة بفعل انتماء الشعب إلى قضيته، وليس بفضل السلطة الفلسطينية التي أنهت حقيقة «منظمة التحرير الفلسطينية» كدولة معنوية للشعب الفلسطيني. وإنّ انتماء الفلسطينيين إلى قضيتهم، لا خوف عليه، لكن الخوف ممن يريدون للنكبة أن تبقى مستمرة.
وأخيراً، أذهب إلى مقالة الياس خوري «نفق الثقافة» المنشورة في العدد 129 (شتاء 2022) في «مجلة الدراسات الفلسطينية»، لأردّد معه ما يقول ويفعل: «هذا النفق ليس مجازاً أدبياً، وإنما ممارسة تنطلق من كتابة الحاضر وصوغ ذاكرة الغد. ففي التماهي مع المهمّشين والمضطهدين واللاجئين والمنفيين، وفي الدفاع عن علاقة الحق بالحقيقة، ورفض أشكال القمع والتسلط كلها، ومقاومة المحتل بسلاح النقد الذي يأخذنا إلى نقد السلاح، تنهض فكرة فلسطين من حطام النكبة».