عام 1908، سجّل الاكتشاف الطبي مرضاً سُمّي «ديستونيا» (Dystonia)، يمكن ترجمة اسمه إلى العربية على أنه «خلل التوتر». هو متلازمة تُعرّض المصاب بها لانقباضات حركية تُنتج تشوّهات متكرّرة وشللاً في الأطراف أو العنق أو كامل الجسم. وبالتالي، يعاني المريض من صعوبة في الوقوف والمشي. ولأن المرض متفاوت من مصاب إلى آخر، ويبدأ من ضمور في عضو واحد وقد يصل إلى شلل نصفي أو كُلّي، أطلق العلماء تصنيفات خاصة لكلّ حالة. ولكن صعوبة هذا المرض أنه ينتقل من عضو إلى آخر؛ إذ يمكن أن يولد الطفل ولديه المتلازمة بسبب خلل وراثي في جزء من بدنه، قبل أن تسيطر عليه لاحقاً. وتفيد «المكتبة الطبية» بأن «الديستونيا» قد يحدث نتيجة صدمة في الدماغ أو ضربة قوية أو ورم في منطقة ما في الجسد، ولا سيما منطقة الرقبة. أمّا السبب الشائع له، فهو الحرمان من الأوكسجين، وهذا ما يحصل مع الأطفال حديثي الولادة. وللأسف، لم يكتشف العلماء علاجاً تامّاً لهذا المرض، لكن ثمّة أدوية يمكنها تخفيف عوارضه أو منع انتشاره في الجسم. وأحياناً، يلجأ الأطباء إلى الجراحة لتعطيل أو تنظيم عمل الأعصاب أو مناطق معيّنة في المخّ لدى الأشخاص المصابين بخلل التوتر الحادّ. في حالتنا نحن، يعاني الجسم الفلسطيني «ديستونيا» شديدة منذ توقيع «اتفاق أوسلو». ثلاثون عاماً، ولم يستطع الفلسطينيون تقييم التجربة واجتراح الحلول أو وضع استراتيجية لما بعد الاتفاقية وفشل مسار المفاوضات. معروف أن الأمور تؤخذ بنتائجها، فيما يغضّ الجميع النظر عن سياقها أو أسبابها. هكذا، ومن دون مقدّمات، يصبح «اتفاق أوسلو» خيانة بنظر البعض، والفرصة غير الضائعة في نظر المدافعين عنه. لكن الحقيقة ليست كذلك. الحقيقة تكمن في أن أيّ خطوة سلبية أو إيجابية ستجد من ينظّر ويصفّق لها أو ينتقدها. هنا، يمكن افتتاح «بازار» للتسويق للفكرة عبر استحضار التاريخ والدين والكثير من الشعارات والوعود. مثلاً، لا بأس من ذكر قاعدة «خذ وفاوض»، أو التذكير الدائم بـ«صلح الحديبية» بين المسلمين والمشركين. وكذلك، يمكن إسقاط تجارب الأمم في التحرّر، واقتباس ما تراه مناسباً من طروحات فرانز فانون، أو خطابات جمال عبد الناصر ولا سيما: «ما أُخذ بالقوة لا يُستردّ إلّا بالقوة». هي عجينة يمكن تطويعها لتكون خبزاً عربياً أو إفرنجياً أو طابوناً وربّما «بيتزا».
إن علاج «ديستونيا أوسلو» يبدأ بالاعتراف بالمرض وتشخيصه، بدل التكاذب الإعلامي والصراع على الحصص


وبعيداً عن التسويق لـ«اتفاق أوسلو» تأييداً أو رفضاً، لا يمكن إغفال السياق الفلسطيني والإقليمي والدولي لبدء «مؤتمر مدريد» وما لحق به من تداعيات. في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، انتهت حقبة كبرى وبدأت أخرى بسقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار جدار برلين، ولاحقاً الحرب العراقية - الإيرانية وحرب الخليج الأولى. أمّا الأهمّ، فكان انتفاضة الحجارة واغتيال أبرز القادة الفلسطينيين، وفي مقدّمتهم خليل الوزير وصلاح خلف. كان الأخطر، حصار «منظمة التحرير الفلسطينية» سياسياً ومالياً، فاختار ياسر عرفات الحفاظ على الجسم السياسي، أي المنظمة، ولو تنازل ظرفياً عن جزء كبير من الجغرافيا. ولذلك، استأنف العمل العسكري في هَبّة النفق عام 1996، وفي انتفاضة الأقصى عام 2000. هو عرف أن المفاوضات تحتاج إلى قوة لفرضها، أو كما قال في أحد خطاباته بعد عودته إلى غزة، أن «اتفاق أوسلو» مرحلة ليعود ويقاوم من أرض الوطن، مع عدم تسليم قراره السياسي لأيّ جهة عربية أو إقليمية.
ويبدو محمود عباس أكثر وضوحاً في الحيرة، في كتابه «طريق أوسلو» (دار الشروق، عمّان، الطبعة الثالثة، 2020)، حيث يَذكر أنه أثناء رحلته في الطائرة إلى واشنطن يوم اﻷحد 12/9/1993 لتوقيع اتفاق «إعلان المبادئ» بين «منظمة التحرير الفلسطينية» وحكومة إسرائيل، والتي استغرقت 10 ساعات ونصف ساعة خلا في معظمها إلى نفسه، راجع ما قدّمه خلال مسيرته الطويلة، وتساءل: «هل هي رحلة العودة إلى الوطن، أم هي رحلة التوقيع على التنازل عن جزء كبير من الوطن؟»، و«هل ما سنقوم به سيفتح الباب أمام المستقبل، أم يقفل الطريق إليه؟ وهل فرّطنا بحقوق الشعب أم حافظنا على هذه الحقوق؟»، مضيفاً أن المخاطر «قد تكون أكثر من المكاسب؟»، ومستطرداً: «ماذا سيكتب عنّا التاريخ؟». هكذا، لم يكن حاسماً في ما إذا كان قراره صائباً أم خاطئاً، لكن التجربة أثبتت أن المراهنة على ما يسمّى «المجتمع الدولي» خاسرة.
عند توقيع «اتفاق أوسلو»، حدث الخلل الكبير. أصابتنا متلازمة خلل التوتر. ومذّاك، يتمدّد المرض وينتقل وراثياً من جيل إلى آخر في خلال ثلاثة عقود. فالجميع يشتمون «إنتاج أوسلو»، أي السلطة، ومع ذلك، يريدون غنائمها، إلّا قلّة. ومن المضحك أن أحدهم وصل إلى منصب رئيس وزراء ففرح كثيراً بلقب «دولة الرئيس»، وأصدر قراراً بأن تضاف الصفة المذكورة إلى الاسم في وسائل الإعلام الرسمية؛ فأي دولة بالله عليك؟ وآخر ارتمى على ظهره ضاحكاً حين استلم جواز السفر الديبلوماسي باعتباره وزيراً للخارجية، ليَخرج في أوّل تصريح له يلعن «اتفاق أوسلو». المضحك أكثر أن القادة الفلسطينيين يقولون إن الاتفاق مات؛ فادفنوه إذاً، أكرمكم الله!
إن علاج «ديستونيا أوسلو» يبدأ بالاعتراف بالمرض وتشخيصه، بدل التكاذب الإعلامي والصراع على الحصص، ومن ثمّ الانتقال من الأدوية المهدّئة والمسكّنات، إلى العملية الجراحية. وربّما عمليات الشباب الثائر حالياً تكون المنطلق لذلك. فما حصل من شلل كبير للقضية، يمكن لمفاجأة فلسطينية أن تنهيه، وخصوصاً أن المحيط الإقليمي والدولي يتغيّر، ومن الممكن تحويله لصالح الحقوق الفلسطينية، لكن المسألة تحتاج قراراً فلسطينياً جامعاً: لنقلبِ الطاولة ونعلنْ نهاية «مرحلة أوسلو»، ولْيكن ما سيكون!