توسّعت دائرة الاعتقالات والتحقيقات التي تُجريها «هيئة تحرير الشام» على خلفية وجود اختراقات في صفوفها - ظهّرها تلقّيها قائمة بأسماء شخصيات قيادية قامت بتسريب معلومات تتعلّق بتشكيلاتها العسكرية والأمنية إلى عدّة دول -، لتشمل، هذه المرّة، قياديين في الجهاز الأمني خطّطوا بالتعاون مع بعض القادة الميدانيين والشرعيين لتنفيذ انقلاب على زعيم «الهيئة»، أبي محمد الجولاني. وفي السياق، تفيد مصادر «جهادية»، في حديث إلى «الأخبار»، بأنّ «الهيئة» اعتقلت، خلال الأيام الثلاثة الماضية، 50 شخصاً، بينهم مسؤول عن تصنيع المتفجّرات، بالإضافة إلى أحد أثرياء «تحرير الشام»، والذي يلعب إلى جانب آخرين دور واجهة لاستثمارات الجولاني في مختلف القطاعات التي يستولي عليها، بما فيها قطاع المحروقات والكهرباء والنقل والزراعة. ووصل عدد المقبوض عليهم منذ بدء الحملة مطلع تموز الماضي، إلى حوالي 450 شخصاً، تمّ الإفراج عن عدد منهم بعد وساطات، فيما جرى تداول أنباء غير مؤكّدة عن إعدام بعضهم. وأكّدت المصادر أن عمليات الاعتقال «لا تزال قائمة»، مشيرةً إلى أنه على عكس الاتهامات السابقة التي كانت تُوجّه إلى المعتقلين، بمن فيهم أبو ماريا القحطاني (ذراع الجولاني والرجل الثاني في الجماعة الذي تمّ تجريده من صلاحياته وفرض إقامة جبرية عليه)، بالتعامل مع استخبارات دولية وتسريب معلومات، تمّ توجيه اتهامات جديدة تتعلّق بتشكيل خلية تسعى للانقلاب على الجولاني، وإنشاء قيادة بديلة لـ«تحرير الشام» بالتعاون مع فصائل تابعة لـ«الجيش الوطني» (المدعوم تركياً) أبدت رغبة في التخلّص من الرجل، مقابل وعود بالتعاون المستقبلي مع «الهيئة» وحكومتها (حكومة الإنقاذ)، في سياق محاولات الأخيرة توحيد المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة شمالي سوريا.
وفي وقت لا تتوافر فيه أدلة واضحة حول تشكيل هذه الخلية، توضح المصادر أن «ثمّة عوامل عديدة تدفع إلى الاعتقاد بإمكانية محاولة الانقلاب على الجولاني، أبرزها مواقفه المتقلّبة وتخلّيه المستمر عن شركائه بهدف تشديد قبضته على مناطق انتشار جماعته، وسعيه لتوسيع إمارته وقضم مناطق في ريف حلب الشمالي». وتتخوّف فصائل في «الجيش الوطني» من استمرار إحكام الجولاني سيطرته على مفاصل الاقتصاد، وتحكّمه بمعابر التهريب مع ما تدرّه عليه من ثروة كبيرة، واحتمال استثماره هذه الثروة في إغراء شركاء جدد يمهّدون الطريق أمامه ليضع قدماً في ريف حلب. كما تتخوّف الفصائل من إحكام الجولاني قبضته على عدد من معابر التهريب في نقاط التماس مع «قسد»، لتصبح جماعته المتحكّم الأكبر بسوق المحروقات في كامل الشمال السوري بعد تأسيسه شركة «الأنوار».
وتأتي الحملة الأمنية المستمرّة داخل صفوف «تحرير الشام»، بالتزامن مع تطوّرات ميدانية عديدة حاول خلالها الجولاني استثمار بعض المتغيرات، بدءاً من محاولة تسلّق تظاهرات السويداء، عبر زيارة «تسويقية» أجراها إلى منطقة جبل السماق التي تحوي بضع قرى يقطنها الدروز، مروراً بمحاولة إشعال خطوط التماس مع مناطق انتشار الجيش السوري في ريفَي إدلب الجنوبي وحلب الغربي، فضلاً عن السعي لتحصيل مكاسب ميدانية على خلفية معارك العشائر مع «قسد»، عن طريق إرسال قوات تحت مسمّى «دعم العشائر» إلى منطقة منبج. إلّا أن حسابات حقل الجولاني لم تطابق حسابات البيدر، إذ أثار التسجيل المصوّر لزيارته لجبل السماق جدلاً واسعاً، نظراً إلى الأوضاع المعيشية المأساوية التي يعيشها سكّان هذه القرى الذين تمّ إجبارهم على اعتناق الإسلام بعد مجزرة نفّذها مقاتلو «الهيئة» (حملت اسم جبهة النصرة آنذاك)، وأودت بحياة 20 شخصاً على الأقلّ في قرية قلب لوزة عام 2015، وتخلّلتها مصادرة معظم أملاكهم. وفي السياق، نفسه، فشلت الهجمات على مواقع الجيش السوري على خطوط التماس في ريفَي حلب وإدلب، بعد أن ردّ الأخير بقصف عنيف، أدّى بحسب بيان لوزارة الدفاع السورية إلى مقتل نحو 111 مسلحاً. كما فشل الهجوم في منطقة منبج بعد أن ردّ الجيش عليه بقصف صاروخي ومدفعي عنيف، شاركت فيه طائرات حربية روسية حافظت على خريطة السيطرة الميدانية الحالية ومنعت أيّ تغيير فيها.
وإلى جانب كلّ ما تَقدّم، يواجه الجولاني فوضى أمنية متزايدة في مناطق سيطرته في إدلب، مهّدت الطريق أمام تنامي الهجمات التي ينفّذها ملثّمون، سواء في صورة عمليات سطو وخطف، أو تنفيذ استهدافات متفاوتة، آخرها استهدافٌ طاولَ رتلاً تابعاً لـ«الهيئة» شمالي إدلب، أدّى إلى إعطاب آلية، قبل أن يتمكّن المهاجمون من الفرار. وفي خضمّ هذه الأزمة الداخلية المتفاقمة، يعيش الجولاني في الوقت الراهن «مخاوف متزايدة من تصفيته»، دفعته، بحسب المصادر، إلى «زيادة عدد حراسه الشخصيين، وتطبيق إجراءات أمنية مشدّدة على تحرّكاته»، بالإضافة إلى «منع إجراء أيّ تواصل بين وجهاء محليين أو قياديين في جماعته وبين الأتراك قبل الحصول على موافقة مباشرة منه، تتضمّن إطلاعه على مضمون اللقاءات»، وهو ما رأت فيه المصادر مؤشّراً إلى أن زعيم «تحرير الشام» بدأ يفقد ثقته بجميع من حوله، وبتركيا أيضاً التي يخشى أن تنقلب عليه هي الأخرى.