رام الله | ما إن تحلّ «الأعياد اليهودية»، حتى يجدّد المستوطنون استباحة مدينة القدس المحتلة طولاً وعرضاً، مكاناً وزماناً، مكثّفين استهداف المسجد الأقصى، ومستعرضين عنصريّتهم في أزقّة المدينة القديمة وشوارعها العربية وأمام مساجدها وكنائسها، وذلك تحت حماية قوات الاحتلال. وفي السياق، أعلنت سلطات العدو، أمس، فرضها إغلاقاً عسكرياً شاملاً على الضفة الغربية وإغلاق المعابر في قطاع غزة، ابتداءً من ظهر اليوم، وحتى ليل السبت - الأحد المقبل، لإحياء ما يسمى «عيد رأس السنة العبرية». وكانت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية قد أوصت حكومة بنيامين نتنياهو برفع درجة التأهب العسكري والاستخباري خلال موسم «الأعياد»، نظراً إلى ارتفاع عدد الإنذارات الساخنة من تنفيذ عمليات فدائية خلالها.وتكرر حكومة الاحتلال هذا الإغلاق الذي يطال العمال الفلسطينيين في الداخل، وحركة المقدسيين كذلك، في كلّ يوم من الأعياد المختلفة التي تبدأ في 5 أيلول وتستمرّ لعدة أسابيع، ويتخلّلها «يوم الغفران» الذي يصادف في 24 أيلول ويستمر حتى 25 منه، وكذلك «عيد العرش» الذي يستمر لمدة ثمانية أيام كاملة تبدأ في 29 أيلول وتمتدّ حتى ليل 7 تشرين الأول المقبل. وتعمل جماعات «الهيكل» المزعوم، منذ عدّة أسابيع، على حملة دعائية وإعلامية مكثفة لحشد أكبر عدد من المستوطنين لاقتحام المسجد الأقصى خلال الأعياد، بأثواب كهنوتية بيضاء ترمز إلى رداء «طبقة الكهنة» التي تقود الصلوات، وتحثّ «المؤمنين» على تأدية طقوسهم التلمودية في داخل الحرم القدسي، ومن بينها نفخ البوق والسجود الملحمي.
وفي الواقع، تستغلّ إسرائيل والجماعات الاستيطانية «الأعياد اليهودية» من أجل جعل الاقتحامات الواسعة للمسجد وأداء الطقوس التوراتية داخله، أمراً اعتيادياً، وبالتالي تصوير الحرم مكاناً مقدساً لليهود، بما يخدم مخطّطات بناء «الهيكل» والحرب الديموغرافية على القدس والمسجد الأقصى، ويمهّد للغرض الذي عجز عن تحقيقه الاحتلال حتى الآن، والمتمثّل في بسط سيادته على المسجد. والجدير ذكره، هنا، أن المطامع الإسرائيلية في الأقصى كثيرة وعديدة، وتتفق الحكومة الإسرائيلية عليها مع جماعات «الهيكل» والمجموعات الاستيطانية وتوفر لها جميع سبل الدعم. وعلى رأس تلك المطامع، يأتي إنهاء الوصاية الأردنية على المسجد، وإنجاز تقسيمه زمانياً ومكانياً، وصولاً إلى ما يعتبره الاحتلال الخطوة الأهم وهو إقامة «الهيكل». وعلى طريق تحقيق الأهداف المذكورة، يأتي الإصرار على تأدية الطقوس التلمودية ذات الأهداف السياسية، من مثل نفخ البوق الذي يعني إعلان الهيمنة على الأقصى، وإشعاراً بالانتقال من زمانه الإسلامي إلى زمانٍ عبري جديد، وإنذاراً بقرب مجيء «المخلص» ليستكمل إقامة «الهيكل» المزعوم.
لا يمكن ضمان عدم تنفيذ عمليات فدائية في الضفة أو الداخل المحتل خلال «الأعياد اليهودية» في ظلّ تحذير المقاومة من تصعيد الاعتداءات على الأقصى


على أن «الأعياد اليهودية» هذه السنة، تبدو أكثر خطورة من سابقاتها، نظراً إلى استعدادات الجماعات التلمودية لتصعيد غير مسبوق وتنفيذ أوسع عمليات اقتحام للمسجد الأقصى شبيهة بالاجتياح الكبير، وكذلك اقتحامات للبلدة القديمة وحائط البراق، بالإضافة إلى أداء طقوس تقديم القرابين والصلاة الملحمية والصلاة العلنية. واستعدّت الحكومة الإسرائيلية، بقيادة اليمينَين: المتطرف والفاشي، لتوفير احتياجات نجاح تلك الاقتحامات، عبر استنفار أمني واستخباري عالي المستوى لعناصرها، وتوفير قوة مسلحة تكون قادرة على قمع الفلسطينيين، وهو ما يزيد، كما جرت العادة، من وتيرة جرائمها، من مثل عمليات الاقتحامات والاعتقالات والإبعاد عن القدس والأقصى، وعسكرة المدينة عبر تحويل البلدة القديمة والمنطقة المحيطة بالمسجد إلى ثكنة عسكرية. ودائماً ما كانت «الأعياد اليهودية» مناسبات مفضلة لدى المستوطنين وجيش العدو لارتكاب المجازر في المدينة؛ ففي خلالها ارتُكبت مجزرة المسجد الأقصى عام 1990، حين حاول مستوطنو ما يسمى بجماعة «أمناء جبل الهيكل»، وضع الحجر الأساس لـ«الهيكل» الثالث المزعوم، فتصدّى لهم آلاف المصلّين، قبل أن يتدخل جنود الاحتلال ويفتحوا النار بشكل عشوائي، ما أسفر عن استشهاد 21 مواطناً، وإصابة أكثر من 200 مصلٍّ. كذلك، كانت في خلالها هبّة النفق عام 1996، وانتفاضة الأقصى عام 2000، وهبّة السكاكين 2015.
في المقابل، يدرك الفلسطينيون جيداً ما يخطط له الاحتلال. ولذلك، تتكاثف الدعوات إلى الأهالي في الضفة والقدس والداخل المحتل لتكثيف الاعتكاف في الأقصى، والتواجد في القدس وأحيائها، في وقت استعدت فيه سلطات الاحتلال لتكثيف حركة المواصلات العامة (الباصات العامة والقطار الخفيف) إلى المدينة، وتمكين أكبر عدد من المستوطنين من اقتحام الأقصى. وإذ تعي حكومة الاحتلال أن وقوع أي عملية فدائية خلال فترة «الأعياد» سيعرّضها لانتقادات كبيرة من المستوطنين والمعارضة على حد سواء، وخصوصاً في ظلّ إخفاقها منذ تشكيلها في إنهاء حالة المقاومة في الضفة، فإن الأيام المقبلة ستشكّل اختباراً مهماً لها، كما هي للمقاومة. وعليه، فالمسجد الأقصى الذي يتعرض لهجمة شاملة، قد يكون مرة أخرى صاعق تفجير في المنطقة، تبدو احتمالات انفجاره عالية نظراً إلى ما يخطط له المستوطنون، فيما سيمثّل وقوع عملية فدائية خلال هذه الفترة، القشة التي ستقصم ظهر حكومة اليمين. وكانت الحكومة قد استبقت، على لسان وزير الحرب فيها، يوآف غالانت، الحدث، بالتحذير من هجمات وعمليات خلال «الأعياد»، بينما قالت مصادر عبرية إن مسؤولين أمنيين كباراً في جيش الاحتلال نقلوا رسائل إلى حركة «حماس» عبر وسطاء، حذّروا فيها من أن أي تصعيد في الضفة أو قطاع غزة، عشية أو أثناء «رأس السنة» العبرية، سيُقابل بقوة. وأشارت «هيئة البث الإسرائيلية» الرسمية، بدورها، إلى أن الأجهزة الأمنية في إسرائيل تستعد لإحباط عمليات هجومية تقدر الإنذارات بشأنها بنحو 200 يومياً.
ويبدو أن الوسيط القطري قرأ رسالة التهديد الإسرائيلي، وهو ما دفعه إلى محاولة ضمان مرور «الأعياد اليهودية» بهدوء. وقد هدفت زيارة السفير القطري الأخيرة لقطاع غزة قبل أيام، إلى حثّ «حماس» على عدم تنفيذ عمليات فدائية في الضفة أو الداخل، وهو ما لا يمكن ضمانه في ظل إصرار المقاومة على تكريس فكرة وحدة الساحات، وتحذيراتها بأن الاعتداء على الأقصى لن يمر مرور الكرام. وفي الإطار نفسه، قالت صحيفة «معاريف» العبرية، في تقرير، إن «جهاز الأمن الإسرائيلي، يقدّر أن حماس ستصعد في الفترة القادمة جهودها (تنفيذ عمليات) في الضفة الغربية، وأيضاً في داخل إسرائيل، ومن غير المستبعد في مرحلة معينة، أنها ستستأنف نار الصواريخ من القطاع مثلما يحصل بشكل عام»، بينما اعتبرت صحيفة «يسرائيل هيوم» أن «المشكلة التقليدية تتمثل في أن الأعياد اليهودية تعدّ فترة عرضة للتوترات الأمنية بسبب التحريض الشديد الذي يرافقها من الجانب الفلسطيني، والرغبة في تنفيذ هجمات مسلحة، بدليل أن أربع هجمات خطيرة وقعت خلال هذه الفترة من 2022»، مشيرة إلى أن «جيش الاحتلال وجهاز الشاباك والشرطة لا يستبعدون احتمال امتداد التصعيد الأمني إلى ساحات أخرى في العمق الإسرائيلي، وفي المدن الكبرى، ما يستدعي منها تعزيز جميع المناطق بسرايا إضافية لحماية المستوطنين».