احتضان الشعب الفلسطيني للمقاومة المسلحة، كأبرز شكل من أشكال المقاومة على تنوعها، ظاهرة لا نعتقدها تحتاج إلى دليل، فمنذ انطلاق الثورة المعاصرة بعد عام 1967 وانتشارها في المخيمات والإقبال الماراثوني للالتحاق بها، وحتى معركة البطولة في تموز الفائت في مخيم جنين، والفرح الشعبي بكل عملية فدائية في الضفة ضد قطعان المستوطنين المستعمِرين، والشعب يقدم الدليل تلو الآخر على أن احتضانه للمقاومة ليس محل نقاش، ويكفي فقط التمعّن في ظاهرة توزيع الحلوى والفرح الذي يرتسم على وجوه الناس في الشوارع بعد كل عملية فدائية للوقوف على حقيقة ما ذهبنا إليه.
لكي تغدو المقاومة نمط حياة
ومع ذلك فتقوية أساسات تلك الحاضنة وضمان ديمومتها، ينبغي أن يكونا هدفاً رئيسياً يتوقف على تحقيقه والعمل عليه باستمرار ضمان قوة ومنعة المقاومة حتى تحقيق هدفها بتحرير فلسطين. لا سبيل لذلك إلا بإحداث نقلة نوعية في كل مناحي الحياة وحقولها المجتمعية المختلفة لخدمة هدف المقاومة، إذ ليس من المعقول تصور حالة يكون فيها الشعب مستعمَراً ويقاتل من أجل تحريره ومع ذلك لا تخدم كل مناحي الحياة وحقولها هدفه الرئيسي بالتحرير. المقاومة ينبغي أن تغدو نمط حياة يعاد بناء كل شيء لخدمتها، وغير ذلك ربما تجد المقاومة نفسها في يوم ما معزولة أمام سياسات المستعمِر، فهو أيضاً يخطط وينفذ بعلمية ووحشية معاً لضرب وعزل المقاومة والمقاومين، أو على أقله ستعاني من الضعف بما يؤخّرها لتحقيقها أهدافها.
إذاً فلنحدد منطلقنا للوقوف على مفهوم المقاومة الشاملة. أولاً وقبل كل شيء ننطلق مما حددناه أعلاه: إن شعباً يقاتل لتحرير وطنه ينبغي أن تتشكل كل حقول ومناحي حياته لخدمة المقاومة وهدفها، ولتعزيز الحاضنة المجتمعية للمقاومة، وبالتالي لتعزيز المنعة المجتمعية أمام سياسات المستعمِر وصولاً إلى تحقيق هدف التحرير. حينها تغدو المقاومة نمط حياة. ثانياً إن المنعة المجتمعية لن تتشكل في مجتمع ينهض على نظام السوق الرأسمالي المرتبط عبر شرائح رأسمال الكمبرادوري والخدماتي بالرأسمال الصهيوني، فهذا النظام لا يرى للمجتمع من زاوية المنعة المجتمعية المطلوبة، بل باعتباره بقرة حلوب تدرّ الملايين على رأس المال الذي لم يكن تحرير الوطن في يوم ما من اهتماماته. المنعة المجتمعية تتبلور في مجتمع مقاوم ويمتلك مقوّمات الصمود، مجتمع ينبني بكل حقوله ومناحيه على فكرة تطوير قدرات الصمود والمقاومة لدى أبنائه، وهذا ما يشكل بالمحصّلة حاضنة مجتمعية للمقاومة، مجتمع يجعل من المقاومة نمط حياة.
مجتمع يخضع للمستعمِر الذي يتطلّع لإنهاء وجود شعبنا عبر مصادرة أراضيه، لا يمكن تصور جامعاته دون مساقات إجبارية للطلبة في كيفية استصلاح الأراضي وبناء التعاونيات الإنتاجية الزراعية والحرفية


استصلاح الأراضي والتعاونيات هو المدخل
ولعل أبرز ما يتوجب التركيز عليه هو تعزيز التوجه نحو استصلاح الأراضي وبناء تعاونيات زراعية وحرفية، وتعاونيات إنتاج غذائي، لاستيعاب أعداد من الخرّيجين، والحد من امتصاص السوق الصهيوني للعمالة الفلسطينية، وتوفير حد معقول من الدخل، وبالتالي الحد من مستويات الفقر. بالتأكيد إن ذلك التوجه لن يغيّر جوهرياً واقع الحال الاقتصادي في الضفة الغربية والقطاع، ولكنه يوفر مقوّمات أولية ضرورية لبناء مجتمع مقاوم وصامد أمام إجراءات وسياسات المستعمِرين، وبالتالي يقوّي الحاضنة المجتمعية بما يعزز من المقاومة. إن واقع ما يسمى زوراً بالاقتصاد الفلسطيني لا يقدم ولو الحد الأدنى من مقوّمات الحاضنة ومشروع المقاومة، بل يلعب دوراً تدميرياً محدداً له وفق اتفاقيتي أوسلو وباريس أصلاً، عبر تعزيز الارتباط بالسوق الرأسمالي الصهيوني، كتابع وملحق علني أو من الباطن، وترويج روح المبادرة الفردية والمشروع الفردي وفق ثقافة (السلامات يا راسي والعب وحدك تيجي راضي) بما يفتت من روحية الهم الجماعي الضرورية لبناء مقوّمات مجتمعية ثقافية واقتصادية داعمة لمشروع المقاومة.
إن (اقتصاداً) يفتقد للسيادة على الأرض والموارد الطبيعية والحدود والمعابر ليس سوى آليات متفق عليها مع المستعمِر، آليات لا ترقى لتشكل اقتصاداً بقدر ما هي آليات للنهب وتعزيز مكانة نخب طبقية بورجوازية تتولى مشروع أوسلو فلسطينياً.
والشباب الفلسطيني، ومن الجنسين أدرك بواقع تجربته الطريق، فعمد في السنوات العشرين الأخيرة إلى التوجه نحو بناء التعاونيات الزراعية والغذائية، بحيث باتت لدينا ظاهرة شبابية اقتصادية تتشكل من عشرات التعاونيات المنتشرة في الضفة الغربية والتي توفر ولو الحد الأدنى من الدخل للخرّيجين، فتحد من نزيف الهجرة من الوطن وتحرم السوق الصهيونية من قوة عاملة.

تعليم لخدمة توجهات تنموية مقاوِمة لا السوق
وما يعزز هذا التوجه نحو بناء مجتمع الصمود والمقاومة هو إحداث التحويل اللازم في التعليم العالي باتجاه التخصصات التي تخدم هذا الهدف. إن تعليماً يعلن ارتباطه بالسوق لحل مشكلة البطالة، لن يحقق هذا الوجه، فالسوق الرأسمالي المستقل عاجز عن هذا، فما بالك بسوق مرتبط وملحق وتابع للمستعمِر؟ إن تزويد سوق القطاعات الخدمية كالبنوك وشركات التأمين والاتصالات وشركات الاستيراد لن يحل مشكلة البطالة فحسب، بل لن يوفر مطلقاً لا اقتصاداً مقاوماً ولا اقتصاداً يتمكن من الصمود ولو بالحد الأدنى.
إن التعليم العام مُطالَب على المستوى التربوي بتعزيز قيم الجماعية والإنتاجية وروح التعاون والتضامن والتكافل وحرية التفكير والإبداع والضمير وروح النقد تجاه المسلّمات والغيبيات، لا قيم الفردانية الليبرالية والمشروع الاقتصادي الفردي والتسليم بالموروث الغيبي أو الوافد الليبرالي وكأنه خاتمة العلم، كما الحاصل اليوم. إن مراجعة بسيطة لما يجري بثه في عقول الطلبة في العديد من كليات ودوائر العديد من الجامعات كفيل بتوضيح طبيعة (صناعة العقول) التي تجري وحسب توصيف المفكر السوسيولوجي بورديو.
هذا على صعيد تربوي، أما على صعيد التخصصات، فمجتمع يخضع للمستعمِر الذي يتطلع لإنهاء وجود شعبنا عبر مصادرة أراضيه، لا يمكن تصور جامعاته دون مساقات إجبارية للطلبة في كيفية استصلاح الأراضي وبناء التعاونيات الإنتاجية الزراعية والحرفية، بديلاً لهالة القداسة التي تتوج المشروع الخاص الفردي الذي يجري الترويج له تحت مسمى الريادة والمبادرة في كليات إدارة الأعمال والتسويق، أو في التصنيع الغذائي المنزلي بديلاً لنهم الاستهلاك الشره، أو في إتقان إدارة المؤسسات الشعبية التكافلية والتضامنية في ظروف معيشية قاسية للفئات الشعبية، حينها وحينها فقط يكون التعليم العالي في خدمة توجهات تنموية مقاوِمة لا في خدمة السوق الرأسمالي التابع والملحق، تعليم عالٍ ينهض على قاعدة ثقافية قوامها الروح النقدية وتحرير العقل ومساءلة المسلّمات والغيبيات مدعوماً بتخصصات مهنية تعزز الملكات والقدرات على بناء مشاريع تعاونية في مختلف القطاعات، ذلك ما يحتاج إليه مجتمع المقاومة والصمود لبناء المنعة المجتمعية خدمة لمشروع المقاومة.
وختاماً، إن كنا تناولنا هنا الاقتصاد والتعليم حصراً، مع مرور سريع على الثقافة والتربية لاعتبارات الحيز المحدود للمقالة، فهذا لا يعني اقتصار المقاومة الشاملة على هذه الحقول فحسب، فالسياحة السياسية البديلة مثلاً لمجموعات شبابية مغتربة هامة جداً رداً على الرواية الصهيونية، والتركيز على الرواية الوطنية للمقاومة بديلاً لرواية الخنوع والاستعطاف وخطاب (احمونا) العاجز أيضاً هام جداً، وتطوير دور شبكات التواصل الاجتماعي لخدمة كل ما قيل أعلاه في الاقتصاد والتعليم والثقافة والسياحة والرواية أيضاً مطلوب وهام، لثقل تأثير تلك الأدوات الإعلامية على مستخدميها، وهنا طاقات شبابية وطنية وتقدمية هائلة، وربما تكون سبقت كل قوى العمل الوطني على هذا الصعيد.