منذ أن دارت عجلة التفاوض بين صنعاء والرياض، ظهر الموقف الإماراتي الرافض لعملية السلام من دون مواربة. وهو ما لم يكن مفاجئاً، وخصوصاً أن أبو ظبي وقفت ضدّ الهدنة منذ وقت مبكر، لا بل إنها شنّت حرباً على القوى الموالية للرياض في شبوة وأبين، وحتى حضرموت، وذلك بعد أشهر قليلة فقط من إعلان الهدنة، على اعتبار أن هذه الأخيرة تؤسّس لسلام مستدام يأتي على حساب مصالح الإمارات بشكل مباشر، وبالتالي يضعف دور المكوّنات التابعة لها في الجنوب، وحتى في بعض مناطق الشمال. هكذا، لم يصمد الشعار الذي سوّقت له الرياض، فور تشكيل «المجلس الرئاسي»، والمتمحور حول توحيد البندقية والكلمة في مواجهة صنعاء، كثيراً؛ إذ أُجهض في وقت مبكر من قِبل أبو ظبي التي رفعت شعاراً مضادّاً: الجنوب حق حصري لـ «المجلس الانتقالي الجنوبي»، وفي الشمال حصّة الإمارات مؤمّنة عبر طارق صالح وحزب «المؤتمر».من هنا، بدأت تتّسع رقعة الخلاف السعودي - الإماراتي، والذي لم يعُد يقتصر على التمايز في الأهداف فقط، وإنما تطوّر ليصل إلى مرحلة التصادم في الأجندات، وصولاً إلى الانفصال التام، حيث بات لأبو ظبي مشروع خاص، سواءً في ما يتعلق بالحرب أو السلام. غير أن الرياض لم تترك الملعب الجنوبي للبلد الجار، بل شرعت في تثبيت معادلة مستعجلة، قبيل ذهابها إلى عملية السلام، وثبّتت قواعدها المحلية، العسكرية والسياسية، على امتداد الجغرافيا الجنوبية الواقعة تحت نفوذ الإمارات. ولم يقتصر نشاطها هذا على منافسة أو مزاحمة الحضور الإماراتي في الجنوب، إنما تمكّنت أيضاً من إزاحة ذلك الوجود في بعض المناطق الجنوبية انطلاقاً من عدن نفسها، «العاصمة» المغلقة في وجه السعودية منذ خمس سنوات.
في الجولة الأخيرة مع أبو ظبي، لم تكتفِ الرياض بالمواجهة الميدانية، بل تبنّت مشروعاً مناهضاً لذلك الذي يتبنّاه «الانتقالي». ففي الوقت الذي زجّت فيه بقوات «درع الوطن» الموالية لها في جميع المحافظات الجنوبية، لإضعاف دور قوات «الانتقالي»، رفعت شعار فيدرالية المحافظات في مواجهة شعار الانفصال، وحشدت لإنجاح هذا المشروع سياسياً وقبلياً وشعبياً انطلاقاً من حضرموت. وبالتوازي مع كلّ ما تَقدّم، كانت تفتح خطوطاً ساخنة مع صنعاء، الأمر الذي أصاب أبو ظبي بالذعر من مخرجات التفاوض بينهما. وبينما كانت السعودية تتحسّب لأي محاولة من قِبل الإمارات لقلب الطاولة في الجنوب كونها ستكبّدها خسائر فادحة، وخصوصاً بعد تغيّر المعادلة لصالحها، فإن الإماراتيين ارتأوا أن القبول بمخرجات التفاوض بين صنعاء والرياض سيمثّل خسارة لهم.
أبو ظبي تحاول نسف البنود المتعلقة بفكّ الحصار على الموانئ ورحيل القوات الأجنبية


بناءً عليه، تركّز أبو ظبي اهتمامها على نسف البنود المتعلقة بفكّ الحصار على الموانئ ورحيل القوات الأجنبية، على اعتبار أن تلك البنود تمسّ مصالحها القومية. ومن بوابة الجنوب وقضية الانفصال، تدفع الإمارات إلى إسقاط عملية السلام، على الأقلّ في ما يتعلّق بالمناطق الجنوبية. ويفسّر ذلك الدعوة الصريحة من قِبل سياسيين إماراتيين، إلى رفع لواء «استعادة الدولة الجنوبية»، والذي يمكن من خلاله حشد الجنوبيين، في تكرار لسيناريو عام 2015، على رغم تغير الظروف كلياً مذّاك، وتحوّل أبو ظبي إلى مرحلة انكشاف مطلق لأهدافها غير المعلنة في الجنوب. وفي السياق نفسه، تبدو قواعد المشروع الإماراتي في الجنوب رخوة، وغير مؤهّلة للصمود في مواجهة أيّ خصم مرتقب، كونها تتّكئ فقط على العامل العسكري، فيما على مستوى الولاء الشعبي، يرى معظم الجنوبيين أن تدمير المؤسسات الحيوية ونهب وتجميد الثروات السيادية، فضلاً عن حصار واحتلال الموانئ والجزر، كلّها مقوّمات مشروع إماراتي في المقام الأول، إلى جانب مساهمة السعودية.
أما «الانتقالي» فلن تَصدق وعوده بـ»جنّة الجنوب» المرتقبة، خصوصاً أن تجربة السنوات التسع الماضية نتجت منها معرفة حسيّة لدى المواطنين هناك بأن كلّ حديث عن مناطقهم لا يتجاوز حدود الشعارات الهادفة إلى دغدغة عواطفهم، وتجييرها لصالح المشروع المختلف جذريّاً عن ذاك الذي تبنّته مكونات الحراك الجنوبي منذ عام 2007. ذلك أن مشروع «استعادة الدولة» يبدأ، ببساطة، ببناء المؤسسات والحفاظ عليها، لا تدميرها وتحويلها إلى ثكنات عسكرية لصالح قوات أبو ظبي.