ساعة بعد أخرى، وبتسارع «ثوري» ومقاوم يعتدّ به ويبنى عليه، وبالبث التلفزيوني الحي والمباشر، تتوالى فصول الجسارة الفلسطينية هجوماً بعد هجوم واقتحاماً بعد آخر... ومع ذلك، وبرغم كل ما تحقق، وما تحقق كان بالنسبة للمقاومين الحقيقيين من أصحاب الإرادة والبأس أكثر من متوقع (ولو أنه في قاموس المهزومين وحدهم، يفوق الوصف ويتخطى الخيال)، فإن المقاومة لم تقل كامل كلمتها بعد. صحيح إن ما قيل خلال مواجهات الساعات الماضية ينضح بالبلاغة، إلا أن لكلام المقاومة تتمة وتتمة. وفي مقدم هذه التتمات الآتية ولا ريب، تتمة لبنانية لا غنى عنها ولا محيد تزيد من وضوح الكلمة الغزاوية وتمدّها بما تحتاج إليه لتصير منطوقة ومسموعة، بل وذات صدى يجعلها مفهومة بالعربية وبغيرها من لغات العالم. ومن شأن هذه التتمة التي لا يبدو أنها ستتأخر، أن يقطع، مرة جديدة وربما إلى الأبد، مع الأوهام التي شاعت، والخرافات التي عمّت، وهي في الأصل أوهام وخرافات إسرائيلية وجدت من يستبطنها من العرب ومن يروّج لها من الغرب.وضوح الكلمة الفلسطينية، وجذرية معانيها، المعبّر عنهما بشجاعة القرار وبسالة المقاومين ودقة الهجمات وذكاء التكتيكات... لا يترك مجالاً لأي التباس. فالمعنى واضح وجلي، لكنه سيكون بلا ريب أكثر وضوحاً وأبعد تأثيراً متى حانت لحظة اقترانها مع تتمتها اللبنانية. فلحظة الاقتران الموعود هذه قد اقتربت، وستكون على قدر الانتظار وتعبه، وبما يليق بالصبر الذي سبقه أو بالشوق الذي يكتنفه.
إننا في فلسطين ولبنان... وربما العالم، أمام واحدة من اللحظات التي تفرض على التاريخ أن يتقدم بعيداً عن الإيقاع العادي ورتابته، وهي هنا لحظة فلسطينية وعربية لها مقدماتها النضالية المحفوظة في الوعي الإسرائيلي كما في وعي رعاته وهم كثر، وسيكون لهذه اللحظة التي يشهد العالم، وبالبث الحي، على ولادتها في غزة تداعيات تاريخية ربما جاوزت الخيال إن لم يكن أكثر. ولعل ما نشاهده من صور غزاوية وما نعايشه من وقائع فلسطينية خير تعبير عما يكتنزه الخيال الفلسطيني المقاوم من سحر، وما سيسفر عنه من أمل.
ستترك هذه المواجهة التأسيسية أثرها على العالم كله. لا شك في ذلك ولا لبس. ولعل حال الضياع والتخبّط وحتى البلبلة التي عصفت بدوائر القرار الإسرائيلي وشلّت مراكزه العصبية في واشنطن ولندن وباريس... والمترجم بفقدانهم جميعاً للمبادرة، وتركيزهم على محاولات الاستيعاب والتقاط الأنفاس، تؤكد حقيقة هذا الأثر الذي تكتب أحرفه الآن وهنا في عموم الجغرافيا الفلسطينية والعربية. التصريحات التهديدية التي ارتكبها بنيامين نتنياهو وأركان حربه، والتي أعقبت حال الصدمة التي لفّت الكيان، كل الكيان، كشفت هشاشة الكيان، وهزالة بناه، فضلاً عن ضيق الخيارات إزاء تبعات الشجاعة والجسارة الفلسطينيين. ويمكن التأكيد أن الهدف الفعلي من استعانة نتنياهو بالعالم ومحاولات حشد الدعم واستمطار عطفه، مجرد إثارة بائسة للغبار ومحاولة أكثر بؤساً للتعمية على حال العجز واللايقين المسيطرة على «مؤسسات» السلطة الإسرائيلية بمستوياتها السياسية والعسكرية والأمنية... فضلاً عن الهدف الأهم المتمثل بمحاولة حصر المواجهة الجارية ضمن أضيق الحدود الجغرافية الممكنة ومنع امتدادها، خصوصاً أن نتنياهو وحكومته، يملك خيال تصور ما ينتظر إسرائيل إذا ما اتسعت المواجهة. لذلك، يمكن القول، وبثقة، إن ارتفاع منسوب التهديد الإسرائيلي ومعه الغربي سواء على لسان جو بايدن أو وزير خارجيته أنطوني بلينكن وباقي الدمى الأوروبيين، هو التعبير الكاشف عن حجم القلق وحتى الرعب الذي يسكن عقول وأفئدة رجالات الحرب الإسرائيليين وفي مقدمهم نتنياهو، وهو قلق لا قبل لأي منهم به، ووطأته تزداد مع مرور الساعات. بل إن هذه التهديدات التي تتناوبها العواصم الغربية تؤكد على عمق القلق وصميميته، وتالياً خشيتهم من زلزالية الأثر الذي ترسمه المواجهة الراهنة، التي من شأن تطورها وامتدادها إلى لبنان وسوريا أن يقلب المعادلات ويجعلها على غير ما اعتاده العالم.
غزة المقاتلة تأخذ على عاتقها، ومعها قوى المحور المقاوم الممتد من طهران إلى دمشق إلى بيروت مروراً بصنعاء... أن تلقن العدو ورعاته الدرس المستحق. وهو الدرس الذي بات في وسع العالم، كل العالم، بفضل التكنولوجيا المتقدمة، أن يراه بتفاصيله بل حتى وعيش فصوله.
غزة المقاتلة في قلب مواجهة لا قبل للعدو بها. ولأنها كذلك فـإنها ستفضي لا محالة إن لم يكن اليوم فغداً أو بعده إلى إعادة رسم المشهد العربي الحقيقي، وفرض تغيير جذري يعيد تشكيل وجه المنطقة الذي يعاني استقراراً قهرياً للمعادلات التي فرضتها نتائج الحرب العالمية الثانية على المنطقة، وكرّستها حقائق انكسار العالم واختلال موازينه مع انهيار الحلم الإنساني الأكبر الذي مثله الاتحاد السوفياتي العظيم. وبالنسبة لنا، فإن تجاربنا الطويلة مع المقاومة تقول إن على شعوبنا أن تصدق أننا بإزاء انقلاب سياسي واستراتيجي شبه قيامي لكامل المنطقة، وتالياً باقي العالم الذي سئم من العربدة الأميركية وضاق بها وبإجرامها الذي جلل العالم بالدم والدموع.
يبقى أن نقول إن ما هو مؤكد أن ما قبل هذه المواجهة (الدرس) لن يكون كما بعدها لا فلسطينياً ولا إسرائيلياً... وإذا كنا سابقاً، وربطاً بمنجزات المقاومة نقول إن العد العكسي لزوال الكيان قد بدأ، فإننا اليوم، وبالنظر إلى ما تحقق أو ينتظر أن يتحقق، يمكن القول بتسارع هذا العد وقرب بلوغه الدرجة التي يصعب معها على اللاعبين اللحاق به فكيف بالمتفرجين السلبيين.
غزة المقاتلة تهندس اليوم ما يمكن تسميته بالنقلة التأسيسية الثانية في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي. فمن بعد التبديد الكامل لسيناريوهات الحروب الإسرائيلية المعتادة، الذي وضعت أساساته في انتصار تموز ٢٠٠٦ يوم صار ما يسمى بالداخل الإسرائيلي تحت نيران المقاومة وصواريخها، ها هي غزة تأخذ المعركة باتجاه مكمل ومتمم هو اتجاه الاقتحام والسيطرة والأسر... وهو ما يمثل تطوراً استراتيجياً يجعل من المواجهة أبعد تأثيراً وأشد فعالية ويجعل من أيام إسرائيل الباقية أكثر سواداً من يوم ٧ تشرين الأول.
إسرائيل اليوم أضعف من أن تهدّد غزة فكيف لو تجرأت على... لبنان.