قضت العمليّة العسكرية الواسعة التي تشنّها المقاومة الفلسطينية انطلاقاً من غزّة باتجاه العمق الفلسطيني المحتلّ في محيط القطاع، على الآمال الأميركية بالاستقرار «النسبي» في منطقة غرب آسيا، ومن خلفه أسعار النفط ومصادر الطاقة. كان الأميركيون يشعرون بالاسترخاء، تمهيداً لتنفيذ إستراتيجية التركيز على الحضور الأميركي في المحيطيْن الهندي والهادئ، وتبديل الانخراط الواسع في مسرح الشرق الأوسط بالاتفاقيات الإبراهيمية، الاقتصادية والسياسية والأمنية. وجاءت عملية المقاومة لتحدث زلزالاً إستراتيجياً يعيق الخطط الأميركية ويعيد واشنطن إلى المستنقع الشرقي المشتعل.ومنذ ظهر السبت، بدأت الاستغاثة الإسرائيلية بـ«الأخ الأكبر» لكيان الاحتلال. إلا أن الردّ الأميركي تأخّر حتى ليل أمس، بإعلان وزير الدفاع لويد أوستن عن إرسال حاملة الطائرات جيرالد فورد «لتعزيز جهود الردع الإقليمي»، وإعلان مسؤولين أميركيين عن حزمة مساعدات لا تزال تحتاج إلى نقاشات لإقرارها. وطالب رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الإدارة الأميركية بمدّ إسرائيل بما تحتاج إليه من صواريخ للقبّة الحديدية، من الإنتاج الإسرائيلي ـ الأميركي المشترك. كما صدرت تلميحات حول عدم قدرة إسرائيل على شنّ عملية واسعة وحدَها ضد قطاع غزّة، مع حاجة إسرائيل إلى ما يشبه «جسراً جوّياً» من الذخائر الأميركية لتعويض النقص المتوقّع في مخازن جيش الاحتلال.
فداحة الخسائر الإسرائيلية على المستوى الإستراتيجي والتاريخي، وهول الخسائر البشرية غير المسبوقة منذ حرب أكتوبر 1973، أجبرا الرئيس الأميركي جو بايدن، على التورّط في دعم إسرائيل، لا هو راغبٌ فيه، خصوصاً في تصريحه المقتضب ليل السبت.
بايدن، كان حتى يوم أمس لا يخفي كرهه لنتنياهو ويمارس الضغوط على حكومته المصنّفة أميركياً «متطرّفة زيادة عن اللزوم»، وبايدن، بحسب تجاربه السابقة لا يرغب في التورّط بحروب لا أفق لها. فهو، رفض عملية «عاصفة الصحراء» عام 1990 عندما كان رئيساً للجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس، ولم يوافق على عمليّة قتل أسامة بن لادن عندما كان نائباً للرئيس السابق باراك أوباما، الذي قدّمت إليه وكالة الاستخبارات الأميركية ملف ابن لادن وطلبت إذن التنفيذ. ورغم موافقته على غزو العراق، عاد بايدن واعتبر أن هذه الموافقة كانت أكبر أخطائه.
حتى الحرب الروسية ــ الأوكرانية، التي يبدو الديموقراطيون شديدي الحماسة إليها في محاولة لتحطيم روسيا وإلحاق هزيمة إستراتيجية بها، أخذت وقتاً حتى اقتنع بايدن بوقف سياسة «القطّارة» ومدّ الأوكران بدفق الأسلحة.
إرسال حاملة الطائرات جيرالد فورد «لتعزيز جهود الردع الإقليمي»


إلى جانب ذخائر الدفاع الجوي، تبدو الحاجة الإسرائيلية ماسّة إلى الذخائر المدفعية كلّما تطوّرت العملية العسكرية البريّة ردّاً على عملية المقاومة، خصوصاً أن أميركا سحبت جزءاً مهماً من الذخائر من مخزونات إسرائيل ونقلته إلى أوكرانيا، ما يضطر الولايات المتحدة إلى تزويد إسرائيل بالأسلحة من مخزوناتها في الاحتياط الإستراتيجي الأميركي. وهذا يعني، أنه كلّما طالت العملية العسكرية الإسرائيلية ولم تصل إلى نتائج حاسمة، سيزداد الضغط على الإدارة الأميركية، وسيرتفع منسوب التنافس بين إسرائيل وأوكرانيا في الحصول على الذخائر الأميركية.
ليس هذا فحسب، فالفشل الإسرائيلي المتوقّع في حسم المعركة داخل غزة، معطوفاً على الإذلال العسكري الذي يتعرّض له جيش الاحتلال، قد يدفعان إسرائيل إلى طلب المساعدة العسكرية المباشرة من الجيش الأميركي. وسيحاول جيش الاحتلال، الاستفادة من المناورات المشتركة التي أجراها مع الجيش الأميركي في العام الحالي، والتي كان آخرها في حزيران الماضي، والحضور العسكري الجديد للأميركيين في النقب.
فجأة، استفاق الأميركيون على حرب واسعة في الشرق الأوسط، في ظلّ التململ الأميركي الداخلي من أعباء الحرب الأوكرانية وعلى أعتاب انتخابات مصيرية. لكن، هل ستنخرط الولايات المتحدة في حرب على هذا المستوى وتعرّض المنطقة بأسرها إلى صدام كبير، وتفتح شهيّة روسيا والصين وإيران على المسّ بالتوازنات القائمة ومواجهتها هنا، كرمى لعيون إسرائيل؟ هذا عدا حملِ الإدارة الحالية أعباء هذه الحرب أمام الداخل الأميركي في ظلّ التجاذب الديموقراطي ـ الجمهوري. فهل تنجح إسرائيل في جرّ أميركا معها إلى المجهول، أم سيكتفي الأميركيون بمستوى محدّد من الدعم والبحث عن مخارج سياسية؟