كان من السهل اعتبار ما حصل أول من أمس حلماً، لكنه ليس كذلك. إنه الواقع تماماً. فقد دخلت المقاومة الفلسطينية إلى مساحات من الأراضي المحتلة، وطهّرتها من المستعمرين.لسنا أمام سيناريو عادي، ولسنا نشاهد فيلماً خيالياً عن معركة تحدث في مكان ما. إننا نشاهد بالبث المباشر ما يحصل، وهذا كان أحد الوعود التي قيلت يوماً بمنتهى الثقة على لسان قادة المقاومة، ولاقت هذه التصريحات بعض السخرية من أولئك الذين «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ». لكن الزمن الدوار يقلّب القلوب، ويرميها بحجر لترى، وها قد رأت، مقاومة من غزة تدخل إلى مدن الأجداد وقراهم، تحرّرها، وتخوض اشتباكات فيها، تقتل وتأسر، وتعود سالمة إلى القواعد.
(فؤاد اليماني)

هذا الفعل الذي جرى ويجري، ليس محطة عابرة، ليس سطراً في الحكاية، هو بدقة متناهية، إيمان بالتحرير، وبفرض الشروط الكاملة على الغازي، وضمان خضوعه لها. وسيقول قائل إن الانتقام سيكون عنيفاً، ومتى فعلت إسرائيل غير ذلك مع الفلسطينيين والعرب، نشأت على مجزرة، وتستمر على مجازر، وستنتهي على مجزرة.
إسرائيل مجزرة التاريخ، وستنتهي هذه المجزرة إلى غير رجعة، ولن تبقى في التاريخ أكثر من ذكرى نتنة، وبعدها سيعود الأهل والصحب إلى ديارهم آمنين، غير آبهين بما حدث عبر السنين، سيذكرون المخيمات بابتسامة ساخرة، سيحجّ الشعب إلى منازل الشهداء والأسرى لإلقاء التحية وأخذ المباركة من أهلهم ودماء أبنائهم، وجواز العيش في الأرض التي بذلوا من أجلها حياتهم.
هل في ما سبق أحلام وخيالات، لو كتبته قبل أيام، لقلت نعم، أما الآن، فلا، فهذا الذي بالإمكان، هذا الذي علينا أن ننتظره، ونؤمن به، ونبذل أيامنا كفلسطينيين وعرب من أجله. والآن بوسعنا كشعب أن نعد أسرانا في سجون الاحتلال بالحرية، أن نعدهم وكلنا ثقة بحريتهم القريبة، الآن بوسعنا أن نذهب إلى الحدود مع فلسطين لننظر إلى البلاد، ونتخيّل «مؤقتاً» أطفالنا وهم يلعبون خلف الحدود، فهذا المؤقت كالمخيمات سيكون دائماً.
أيضاً ليس في ما سبق شطحات متفائل، فما أنجزته المقاومة الفلسطينية في يوم واحد، يعادل تقريباً ما أنجزته جيوش نظامية قبل 50 عاماً في حرب تشرين التي خاضتها سوريا ومصر على جبهتين، حرّرتا فيها أراضي محتلة. وصحيح أن مصر ذهبت بعد عبور القناة وتحرير سيناء إلى تطبيع مع إسرائيل، إلا أنها ظلّت تراوح مكانها هي ومن وقّعت معهم، فلم تنجح إسرائيل في فرض قبولها لدى المصريين، ولا المصريّون تقبّلوها، ولو أن هناك بعض الديموقراطية في بلداننا، لسقطت هذه الاتفاقية وغيرها من الاتفاقيات التالية. فالشعوب، حسب مؤشرات علمية دقيقة، ترفض التطبيع مع إسرائيل، ولعلّ ما يحصل سينهي أيّ أمل بحدوث اتفاقيات جديدة مع دول عربية أخرى، ولا سيما أن إغراءات إسرائيل العسكرية والتكنولوجية سقطت، بعدما تمكنت المقاومة من تعطيل الاتصالات الإسرائيلية، وتمويه اقتحامها للمدن والقرى المحتلة، وهو ما أشار إليه أمس محلّل نظم المعلومات الأسبق في وكالة الأمن القومي الأميركي إدوارد سنودن في تغريدة له في موقع x بأن برامج التجسس الإسرائيلية التي باعتها لحكومات عدة في العالم للتجسس على المعارضين والقادة، «اتّضح أنها ليست مفيدة جداً للتجسس على حماس». ومن جانب آخر، أكثر عمقاً وأقلّ تواضعاً، فإن الحكومات والأنظمة الذاهبة إلى التطبيع أو التي ذهبت، ستحسب اليوم حسابات جديدة، منها ذرائع التطبيع الكاذبة، فضلاً عن «البصقة» التي تلقّتها والتي ستتلقّاها كل يوم.
ولعلّ ما حدث ويحدث حتى الآن، من شأنه أن ينهي حياة نتنياهو السياسية، ويدوس عنجهيّته، وهذا من نافل القول. لكن ثمة جانب آخر، هو السلطة الفلسطينية التي عليها اللحاق بالركب، والعبور مع العابرين، وإلا فإنها ستبقى في قائمة العار الفلسطينية إلى الأبد.