مهما فعلت إسرائيل، لن تستطيع إعادة صورة اقتدارها إلى ما كانت عليه؛ ليس في وعي أعدائها فحسب، بل في وعيها هي أيضاً. فالمعضلة التي قفزت مباشرةً إلى طاولة القرار الإسرائيلي، مع اتّضاح حجم «الكارثة»، هي أن ما يرمّم كسْر الصورة، ويخفّف من وطأة الإذلال، ويمنع إمكانية التوجّه لاحقاً إلى استنساخ عمليّة «طوفان الأقصى» في جبهات أخرى، هو كسْر حركة «حماس» وفصائل المقاومة، وإنهاء وجودها بالمطلق؛ إذ إن أيّ ثمن دون ما تَقدّم، من شأنه أن يكرّس الخسارة أكثر. وفي ذلك، يمكن الإشارة إلى الآتي:لم تنتهِ المعركة بعد؛ ولا يتعلّق الحديث هنا بالحرب التي أعلنها العدو على غزة، بل إن «الغزوة» الفلسطينية نفسها لم تنتهِ بعد، وهي بعيدة، كما يبدو، من الانحسار قريباً، إذ أكّد الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أن «الوضع في المستوطنات لا يزال بعيداً من السيطرة الكاملة، بعد عملية حماس المفاجئة»، وهو ما يجب أن يُبنى على أساسه التقدير الآتي، والممكن واللاممكن، من جانب إسرائيل. وفيما لم تتمكّن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، إلى الآن، من حصْر أعداد القتلى والأسرى والمفقودين، والتي قد تصل إلى ألف مستوطن - يُقدّر أنهم موزّعون بين قتلى وأسرى -، تستمرّ المستوطنات في كونها مسرحاً للأعمال القتالية. وإذا كانت الخسائر البشرية والمادية لم تتحدّد بعد، فلا مكان للقول إن الغزوة الفلسطينية انتهت، ليصار إلى الحديث عمّا يليها، على رغم أن صاحب القرار في تل أبيب، يريد - وهو معنيّ - أن ينتقل سريعاً إلى المرحلة الثانية من المواجهة، أي من حالة الدفاع إلى الهجوم.

انهيار النظرية الأمنية
من جهة أخرى، يمكن القول إن عمليّة «طوفان الأقصى» دمّرت، دفعة واحدة، النظرية الأمنية الإسرائيلية: الردع والإنذار والدفاع والحسم، إذ لم تردع صورة اقتدار إسرائيل وتسلّطها وجبروتها، المقاومة الفلسطينية عن تجاوز ما لم يكن في الخيال، فيما انتفى الإنذار مع انتفاء المعلومات الاستخبارية التي كانت «صفراً مربّعاً»، وانهارت الدفاعات تماماً من جرّاء المواجهات المباشرة التي أَظهرت عيوب الجندي الإسرائيلي. أمّا الحسم، فانتهى أيضاً، ولا سيما أن ما سيجري لاحقاً، من ردود فعل إسرائيلية انتقامية، لا علاقة له بالحسم، بل هو في واقع الأمر جبي للثمن، وليس حسماً. ولا يقتصر الفشل على الجانب الاستخباري، الذي يُعدّ رأس ومقدّمة أيّ فشل لاحق عليه، بل يمتدّ إلى الفشل العسكري في القتال المباشر، والحديث هنا عن نقاط مراقبة عسكرية وتقنية ومراكز تحشيد وجهوزية، إضافة إلى مراكز قيادية ولوجستية كبيرة جداً، على مستوى ألوية وفرق، وهو ما جرى الحديث عنه في الإعلام العبري بإسهاب نسبي، مع اتّضاح حجم الانكسار الاستخباري والعسكري.
إلّا أن ما لم يُلحظ كثيراً في الإعلام الإسرائيلي وتحليلات خبرائه، هو الحديث عن الفشل السياسي في ما يتعلّق بالإستراتيجية الإسرائيلية المعمول بها منذ سنوات، وهي التي راهن عليها قادة العدو طويلاً ضدّ القضيّة الفلسطينية. وأساس هذه الاستراتيجية، تقطيع هذه القضيّة وتجزئتها إلى قضايا لا صلة ولا اتحاد في ما بينها: فللفلسطينيين في أراضي عام 1948، قضيّة خاصّة بهم، وكذلك في القدس، وفي الضفة، فيما قضيّة قطاع غزة تتحوّل إلى مطالب اقتصادية، وفكّ حصار، وزيادة عدد العمّال، والمنح المالية القطرية، مع مساحة صيد أوسع. وفي هذا السياق، ظنّ الجانب الإسرائيلي أنه نجح في تطويع حركة «حماس»، إلى الحدّ الذي بات يتحدّث فيه عن احتمال «السلام» معها: هدوء مقابل عوائد اقتصادية.
ما دون اجتثاث «حماس»، لا يؤدّي المأمول من الحرب المعلنة


«القبة الحديدية»
يبدو أن إسرائيل تسير في اتجاه سيفضي إلى خسارتها فاعلية وتأثير واحدة من أهمّ وسائل اقتدارها العسكري، وهي «القبّة الحديدية». ولا يعود ذلك إلى تحييد هذه المنظومة عبر تعطيلها بعد السيطرة على المراكز العسكرية التي كانت تديرها وتشغّلها، أو قتل وأسْر طواقمها، بل بنتيجة أسر هؤلاء، إذ سيوضح التحقيق معهم نقاط ضعف المنظومة، وهو ما كان محلّ رقابة وحظر مشدَّديْن من الجانب الإسرائيلي. وهكذا خسارة، من شأنها أن تُلقي بظلالها على منظومة قيل عنها الكثير، وكانت تشجّع الإسرائيليين على تنفيذ اعتداءاتهم في غزة، وفي غيرها من الساحات.
وهذا المعطى، إذا تحقّق بالفعل، وكشفت المقاومة نقاط ضعف المنظومة، فستكون التبعات سيئةً جدّاً على الأمن الإسرائيلي، وعلى خيارات تل أبيب، ليس في هذه المواجهة فحسب، بل في ما سيليها من مواجهات في فلسطين وخارجها، علماً أن مواجهات اليومَين الماضيَين، أثبتت هشاشة القدرة الدفاعية الإسرائيلية أمام الصواريخ، نتيجة تعطيل «القبّة الحديدية». وكذلك، كانت تعبيرات العجز واضحة في تصريحات رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو ، وإنْ جرى تزيينها بعبارات الحسم والاقتدار، إذ كانت الأهداف التي أعلن عنها متواضعة جدّاً قياساً إلى الخسارة والإذلال اللذين منيت بهما إسرائيل: استعادة السيطرة على المستوطنات، وجبي ثمن من المقاومين، وردع الساحات الأخرى عن التدخّل في مجريات المعركة، التي شدّد، بشكل لافت، على أنها حرب، وليست مجرّد عملية عسكرية. ويشير تواضع الأهداف، نسبيّاً، إلى المعضلة الموجودة على طاولة القرار في تل أبيب. فالحرب لا تعني بالضرورة، إعادة احتلال قطاع غزة لاجتثاث فصائل المقاومة، وهو ما تأكّد لاحقاً عبر التسريبات الموجّهة من المؤسّسة الأمنية، لمنع توقّعات زائدة عن حدّها لدى المستوطنين، في حين أن ما دون «الاجتثاث»، لا يؤدّي المأمول من الحرب المعلَنة. وعلى هذه الخلفية، شدّد نتنياهو على جبي الثمن، لكن من دون تحديد ماهيته.

«حزب الله» في تدخّل طبيعي
عمليات قصف المواقع العسكرية الإسرائيلية في شمال فلسطين المحتلّة، والتي أعلن «حزب الله» مسؤوليّته عنها، في بيان رسمي، جاءت لتجيب على الهدف الثالث الذي أعلن عنه نتنياهو: ردع الآخرين عن التدخُّل في مجريات الحرب. وجاء ردّ الحزب واضحاً في المقابل، وهو أن المقاومة في لبنان، ستكون معنيّةً بالتدخّل العسكري المباشر، أيضاً وفقاً للظروف واتجاهات الأوضاع ميدانياً في غزة، الأمر الذي من شأنه أن يُثقل صاحب القرار في تل أبيب، ويحدّ من خياراته.
في واقع الأمر، جاء قصف «حزب الله»، الذي لفت فيه استخدام الصواريخ الموجّهة - التي تُعدّ في ذاتها إشارة دالّة جدّاً -، ليردّ على سلسلة رسائل وردت إليه. إلّا أن القصف قد يكون موجّهاً إلى ما ورد من بيانات ومواقف صدرت عن رأس الهرم في الإدارة الأميركية، جو بايدن، وكذلك عن رئيس حكومة العدو.

ماذا عن الآتي؟
في واقع الأمر، هذا هو السؤال المطروح في تل أبيب، مع سؤالَين إضافيَّيْن: ما الذي يجب فعله؟ وما يمكن لنا فعله؟ علماً أن المؤسّسة الأمنية في إسرائيل، صاحبة القرار الفعلي في هكذا ظروف، تعلم أن الممكن لا يؤدّي إلى ما يُطمح إليه. وكلّ ردّ فعل، مهما كان دموياً وعالياً، دون إنهاء حركة «حماس»، لا يغيّر من الانكسار الإسرائيلي وتداعياته الكثير، بينما إنهاء الحركة دونه صعاب، لا تتعلّق فقط بتلك المادية المباشرة، والأثمان المُقدّر دفعها في حال تقرَّرت العودة إلى احتلال غزة، بل أيضاً بارتباط هكذا خيار بردّ فعل الساحات الأخرى، وهو الذي أشار إليه قصف «حزب الله» المركّز أمس، على مواقع الجيش الإسرائيلي في مزارع شبعا المحتلّة.
في المحصّلة، عرّت عمليّة «طوفان الأقصى»، إسرائيل، وكشفت حقيقتها وواقعها. أما خشيتها هي (إسرائيل)، في اليوم الذي يلي، فهو أن يبني أعداؤها على هذه النتيجة أفعالاً مشابهة، تتكرّر من جديد، في فلسطين وفي خارجها. وها هي إسرائيل، أخيراً، باتت تعمل على «أَنسنة» الجندي والجيش الإسرائيليَّيْن، وتقرّ علناً وفي وعيها بهذه «الأنسنة»، أي إن الجندي الإسرائيلي، لم يَعُد يُحسب فوق البشر. نعم، محمد الضيف، يحقّق المعجزة.