يبدو الانتظار قاتلاً في مثل هذه الأوقات، فالقصف المتواصل على قطاع غزة، وبعض مناطق جنوب لبنان، يحرّك في دواخلنا ثورة كبرى لا تكاد تهدأ حتى تنفجر مع خبر جديد من شمال البلاد أو جنوبها. فلسطين لن تكون وحدها، هكذا يأمل كل حرّ في العالم، وهكذا يعتقد من يؤمن بالحق والحقيقة في هذه البلاد التي عاشت تنتظر مثل هذه اللحظات المصيرية. هذه اللحظات التي تُرى فيها إسرائيل مهزومة فعلاً، وقواتها التي «لا تُقهر» متقهقرة، ولا تملك من حيلة القوة إلا الجريمة المتنقّلة.
هذه الجريمة التي نشهدها على الهواء مباشرة كما نشاهد وقاحة العالم الذي رفع علم القاتل في ساحاته ومعالمه الأساسية. هذه الوقاحة التي تشكل نهجاً في العالم، تدفع المرء إلى اتخاذ مواقف، ليس أقلها لعن «الحضارة» التي تتغنّى بها تلك البلدان، ولعن «الحضاريين» من أمتنا الذين يزاودون على الله في الأمور المتعلقة بتلك البلدان، وحين تحصل المقتلة الإسرائيلية الحالية يصمتون كالقبور، و«الكاف» في الكلمة السابقة خاطئة، لأن هؤلاء قبور وأموات، ولا أعرف كيف يمكن لهم أن يكونوا طبيعيين بينما تحصل هذه المجزرة المستمرة في فلسطين منذ مئة عام. والأوقح من هؤلاء من زار إسرائيل من أجل الإطاحة بنظام بلاده. هؤلاء ليسوا عاديين، وليسوا منّا، ولا يمكن لهم أن يكونوا سوى أعداء، للأسف من بني جلدتنا، ومثلهم أولئك الذين يقمعون صوتاً يصرخ ضد المجزرة في أنحاء فلسطين.
هؤلاء جميعاً سيندمون، كما سيندم كل من يعطي الشرعية لإسرائيل بعلاقات التطبيع، سيندمون لأنهم يراهنون على حصان خاسر، بدأ من القتل وسينتهي إليه، ولا يعرف سوى نهج قاصر، مفاده «اقتل حتى تعيش» و«اقتل حتى تكون»، لكننا وإن قُتلنا فلن نموت، نبقى ليس فقط لأننا أصحاب الأرض وأهلها وبنيانها وتاريخها ومستقبلها، نبقى لأن التجربة تحيينا. شرّدتنا العصابات الصهيونية في النكبة، وجعلتنا لاجئين وسكاناً في «غيتوات» خلقتها في الأرض، فقمنا وعدنا وأطلقنا ثورة جذبت العالم، وأعدنا خلق الشعب الفلسطيني ووطنيته من جديد، وبات الأحرار من كل العالم يتقاطرون إلينا للانتماء إلى شعبنا العظيم، الشعب المولود من موت صنعته لنا الصهيونية لننتهي إلى الأبد ولا نكون.
اليوم، وبعد ما يحصل من قصف جنوني تمارسه إسرائيل على الفلسطينيين، وارتفاع أعداد الشهداء، أدرك أنه ليس هناك خط للرجوع، وأدرك معنى «إما نصر أو استشهاد»، وأدرك معنى أن لا تكون فلسطين وحيدة في نضالها ضد الغطرسة الصهيونية، وفي حال ظلت وحيدة في محاولة قتلها النهائية، فعلى من يتبقى منا أن يحمل صليبنا ويعلقه في بيوت القبائل حتى الأبد. ففي الوقت الذي تحاول فيه إسرائيل ذبح غزة، تسعى إلى تهجيرها ونفيها ورميها في البحر، وهذا ما دأبت عليه في غزة في حروبها السابقة، ولم تنجح. وبعد أن قال وزير حرب الكيان يوآف غالانت «حيوانات بشرية ونتصرف بناءً على ذلك» في وصفه لأهل غزة، ولذلك قرّر تشديد الحصار الشديد أصلاً على القطاع، بقطع الماء والكهرباء والوقود.
هؤلاء جميعاً سيندمون، كما سيندم كل من يعطي الشرعية لإسرائيل بعلاقات التطبيع، سيندمون لأنهم يراهنون على حصان خاسر، بدأ من القتل وسينتهي إليه

وبذلك يكون قد أكّد المؤكد عن كيف ترانا إسرائيل، ليس من اليوم، بل منذ أول مؤتمر للصهيونية عام 1897، وفي النكبة، وقبلها حين أتوا إلى البلاد كـ «مستضعفين» فلم يقربهم أحد، وحين تفشّوا في حياة فلسطين كالسرطان، وحتى الساعة، وستبقى إسرائيل تنظر إلينا كفلسطينيين وكعرب بالكامل بهذه الطريقة التي عبّر فيها غالانت.
ولعل الشعوب التي طبّعت حكوماتُها، تعرف كيف ينظر إليها الصهيوني الذي يجلس في فنادق بلادها، ويجول شوارعَها، و«يستثمر»، بالأحرى يسرق، خيرات بلادها. فالذي ينظر إليكم أيها العرب كـ«حيوانات» لا بد أن يفعل بكم، كما تشاهدون اليوم على الشاشات، ولا بد أنه مارس معكم ممارسة السيد مع «العبد»، ولا بد أنه تلفّظ ببعض الجمل التي من شأنها أن تشعركم بأنكم مثله، لكنه في الواقع وفي الحقيقة التي لن تعجبكم، لا يراكم ولا يرانا سوى «حيوانات» يجب قتلها. فقرِّروا قبل فوات الأوان، أن تكونوا عرباً وبشراً وإنسانيين. وحتى ذلك الحين، انتبهوا فإن الصواريخ والطائرات والقذائف التي يسمعها أهل فلسطين، تنزل عليكم، ليس مجازاً، بالفعل، والدليل صمت حكوماتكم، وصمتكم على أولي أمركم.

* كاتب فلسطيني