فاجأ الفلسطينيون العالم بهجوم مباغت بالغ الجرأة، وصفه مراقبون غربيون بـ«حرب أكتوبر الثانية»، وألحق ضرراً هائلاً بسمعة إسرائيل، وخصوصاً على المستويَين الأمني والعسكري، واستُلحق بغطاء غربي شامل للجرائم الإسرائيلية المرتكَبة في قطاع غزة. وفيما يمكن وصْف ردود الفعل الأفريقية «الرسمية» على العملية الفلسطينية، بـ«المتوقّعة» إلى حدّ كبير لجهة إدانة «العنف»، إلّا أن الخطاب بدا مختلفاً من ناحية جنوب أفريقيا، التي دانت الصهيونية، وتحدّثت عن مواجهة الاستعمار، مقدّمةً قراءة موضوعيّة لطبيعة الصراع، في موقف لم يجد له ندّاً في الخطاب العربي «الرسمي».
كينيا في «المعسكر الغربي»
سارعت وزارة الخارجية الكينية إلى إدانة هجوم «مسلّحي حماس» بأشدّ العبارات الممكنة، فيما بدا لافتاً توجيهها دعوة إلى «الجانبَين» (حماس وإسرائيل) لـ«ممارسة ضبط النفس، والسعي للوصول إلى اتفاق عبر التفاوض» لتسوية هذا الصراع. ومع ذلك، يُعدّ الموقف الكيني معتدلاً إلى حدّ كبير، وخصوصاً أنه أتى في ضوء التقارب المستجدّ بين نيروبي وواشنطن، والمعبَّر عنه بقبول الأولى إرسال قوات أمنية إلى هايتي (على البحر الكاريبي)، وقيادة «قوّة متعدّدة الجنسيات لمواجهة عنف العصابات» في هذا البلد، استجابةً لقرار مجلس الأمن الدولي الصادر مطلع الشهر الجاري، تشكيل القوّة.
لكن بيان الرئيس الكيني، وليام روتو (8 الجاري)، جاء بصيغة مغايرة؛ إذ لم يكتفِ بإدانة «هجمات حماس»، وإعلان انضمام بلاده إلى «بقية العالم في التضامن مع دولة إسرائيل»، بل حثّ المجتمع الدولي على الاصطفاف لوضع «المعتدين، والمنظّمين، والمموّلين، والرعاة، والمؤيّدين، ومَن مكّنوا وقوع هذه الأعمال الإرهابية الإجرامية، أمام المحاكمة الناجزة»، ودان استمرار استهداف المدنيين (الإسرائيليين وحدهم وفق نصّ البيان) عمداً في هذا الصراع. وهكذا، مثّل بيان روتو تراجعاً واضحاً، مقارنةً ببيان خارجيته «المعتدل»، فيما يشير تفصيله «لأطراف» الهجمات، وكذلك نفيه أيّ مبرّرات أو دوافع وراء العمليّة من قَبيل استمرار الاحتلال الصهيوني في فلسطين وممارساته القمعية، إلى اتّساق كامل مع الرؤية الغربية للأزمة، والسعي الواضح لاستغلالها في سياقات أوسع وربّما غير محدّدة راهناً، تعيد إلى الأذهان سياسات «الحرب العالمية على الإرهاب»، والتي اضطلعت فيها كينيا أفريقيّاً بأدوار رئيسة؛ علماً أن روتو دعا، في ختام بيانه، إلى العمل من أجل تسوية سلمية للصراع، واحترام جميع الأطراف لحقوق المدنيين والالتزام بتعهداتهم وفق «القانون الدولي». كذلك، لا يمكن فصْل التناقض بين مقدمة البيان وخاتمته، عن قرار لاحق لـ«المحكمة العليا الكينية» (9 الجاري) بالتأجيل «المؤقت» لنشر القوات الكينية البالغ قوامها نحو ألف جندي، في هايتي، وسط مناهضة قوية ومتصاعدة من قِبَل المعارضة في هذا البلد.

نيجيريا: الحلّ السلمي عبر التفاوض
من جهتها، بادرت الحكومية النيجيرية، منذ اليوم الأول للعملية، إلى الدعوة إلى وقف إطلاق النار «بين إسرائيل وحماس»، بعدما عبّرت عن قلقها العميق إزاء التصعيد. ودعا وزير خارجية هذا البلد، يوسف توجار، إلى تبنّي خيار «الحلّ السلمي للصراع عبر الحوار». ولربّما يمكن فهم هذا الموقف الرسمي في ضوء الموازنة المفهومة بين توجّهات نظام الرئيس بولا أحمد تينوبو، وطبيعة المواقف الشعبية المتعاطفة مع القضيّة الفلسطينية «تاريخيّاً»، وخصوصاً في الولايات الشمالية ذات الغالبية المسلمة، أو تلك الواقعة في الوسط حيث تقطن الأقلّية الشيعية النيجيرية، علماً أن الأخيرة هي الأكبر عدداً على مستوى أفريقيا. وجلّى المواقف المشار إليها، خروج تظاهرات حاشدة قادتها «الحركة الإسلامية النيجيرية» (الشيعية) في سوكوتو، وفي العاصمة أبوجا (9 الجاري)، ورفَع فيها المحتجّون الأعلام الفلسطينية، مردّدين شعارات مناهضة للاحتلال الصهيوني، فيما أكد الشيخ سيدي منير، في بيان أصدره باسم الحركة، أن «طوفان الأقصى» جاء كـ«استجابة» للهجمات الأخيرة التي شنّتها قوات الاحتلال الإسرائيلي على المسجد الأقصى، واللاجئين في قطاع غزة المحاصَر.

جنوب أفريقيا: عودة إلى البديهيات
استكمالاً لانتهاج جنوب أفريقيا أدواراً إقليمية وسياسات خارجية مميّزة الطابع، جاء موقف حزب «المؤتمر الوطني الأفريقي» الحاكم، والمعروف بتبنّيه خطّاً داعماً للقضيّة الفلسطينية، لافتاً للغاية لجهة تبنّيه خطاباً مناهضاً للاستعمار. ووفق البيان الصادر عن الحزب (8 تشرين الأول)، فإن «تحرّك حماس لم يكن مفاجئاً بسبب استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية»، وإنه «لم يَعُد ثمّة خلاف حول أن تاريخ "الأبارتهايد" في جنوب أفريقيا، هو واقع فلسطين المحتلّة (اليوم)». ونتيجة لما سبق، فإن «قرار الفلسطينيين الردّ على وحشيّة نظام الأبارتهايد الإسرائيلي الاستيطاني غير مفاجئ»، كما رأى الحزب، حاثاً الطرفَين في الوقت نفسه على «انتهاز الفرصة لتحقيق السلام».
عبّرت المواقف الأفريقية من الصراع الدائر في فلسطين راهناً، عن تباين واضح في رؤى دول القارّة


واتّسقت مواقف قوى سياسية ونقابية جنوب أفريقية مع موقف «المؤتمر الوطني»؛ إذ انتهز «الحزب الشيوعي الجنوب أفريقي» فرصة انعقاد لجنته المركزية (6-8 الجاري) على هامش الاحتفال بالذكرى الـ78 لـ«الاتحاد العالمي للنقابات»، لإصدار بيان عبّر فيه عن الموقف من الصراع الراهن في فلسطين، متضمنّاً إعلان الحزب (الذي يتمتّع بشعبية كبيرة وسط قطاعات الطبقة العاملة في جنوب أفريقيا) التضامن الواضح مع الشعب الفلسطيني، ومعارضته القويّة «جميع المكائد الإمبريالية، بما فيها العقوبات الأحادية والحصار الاقتصادي (لغزة)». ودانت اللجنة المركزية، بقوّة، «إقدام نظام رئيس الوزراء الإسرائيلي العنصري، بنيامين نتنياهو، على توجيه فلسطينيي غزة بمغادرة منازلهم وأرضهم»، مشبّهاً «جهود حماس والمقاتلين الفلسطينيين ضدّ النظام الصهيوني بأنشطة "رمح الأمة" uMkhonto weSizwe (الجناح العسكري للمؤتمر الوطني الأفريقي الذي تكوّن في الستينيات بقيادة الزعيم الراحل نيلسون مانديلا)».
وأثارت تلك المواقف مخاوف محلّلين جنوب أفارقة (صحيفة ديلي مافريك - 10 تشرين) من أن التباين بين القوى السياسية في جنوب أفريقيا إزاء الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي «يمكن أن يعظّم من فجوة الخلافات بينها محلياً، ولا سيما مع بروز سمة دينية في بعض المواقف لدى قطاعات من المسلمين واليهود أو اليمين المسيحي»، فيما يظلّ موقف جنوب أفريقيا الأكثر تمثيلاً لفهم حقيقي - ونادر - للصراع ودوافعه.