يدوس الإسرائيليون، بمن فيهم من كانوا «يحتكمون إلى العقل» قبل يوم السبت، على الفظائع التاريخية التي ارتكبتها «دولتهم»، وقادت إلى لجوء المقاومة إلى هجومها المباغت، مُخرجةً العدو عن طوره. وحتى أولئك الذين صُدموا - وإنْ إيجاباً - لا مبرّر لصدمتهم؛ إذ كان عليهم أن يُفاجَؤوا بحقيقة أن مليونَي إنسان محاصَرون منذ 17 عاماً، وملايين غيرهم مشتّتون في بقاع الأرض منذ 75 عاماً، ومليونين آخرين تقمعهم إسرائيل بقبضتها الحديدية في الداخل، وأكثر منهم بجدارها الفاصل في الضفة... لم يحطّموا جدران أكبر سجون العالم بقبضاتهم منذ زمن بعيد، ليخرجوا على من يسمّيهم مفكّرو العدو «سكان الفيلا»، ويهشّموهم بأظفارهم وأسنانهم.وسط هستيريا الانتقام الوحشي، ينتصب العالم الغربي هو الآخر؛ حيث لم يَعُد منحازاً إلى إسرائيل فحسب، بل بات شريكاً في صياغة وتصميم القتل الجنوني، والتبرير له، والتحريض على ارتكابه، ومدّه بالوقود اللازم لإدامته. في إسرائيل، واحدٌ من بين كل ثلاثة صهاينة (في عمر الـ18-40 عاماً) مجنّد لتفعيل آلة القتل؛ إذ خلع الأطباء أثوابهم البيضاء، ولبسوا بزّات الجلادين، ومثلهم فعل الإعلاميون والمراسلون والممثّلون والفنانون والطلبة والأكاديميون والموظفون والعمّال... عاد، عمليّاً، ملايين الصهاينة إلى الوظيفة الأساسية التي خُلقوا وصُمموا لأجلها: الدفاع عن وجود إسرائيل.
على الشاشات والصحف والمواقع الإسرائيلية لا أسئلة. لا تعقّل. لا تفكير. لا شيء سوى عاصفة هوجاء من التحريض على الانتقام، والدعوة إلى القتل، وإلى مسح أحياء غزة عن بكرة أبيها، وإبادة ساكنيها، والكثير الكثير من الأكاذيب وتزييف الحقائق والتنكّر لها، تتولّاها النُّخب الأكاديمية، والسياسية، والأمنية والعسكرية.
لكن في خضمّ هذا الهيجان الفوضوي، خرج الأستاذان الفخريان، نوعام زوهار، وآفي ساغي، الأول من قسم الفلسفة في جامعة «بار إيلان»، والثاني زميله في الجامعة نفسها وباحث كبير في معهد «شالوم هارتمان»، للتحذير من الوقوع في «مصيدة» الانتقام، في الطريق إلى القضاء على «حماس». بدأ الباحثان مقدّمتهما بالقول إن الدوافع وراء الغضب «مبرّرة» إزاء مَن وصفاهم بـ«أعداء أفظع من الحيوانات» (متجاوزَين وصف «الحيوانات البشرية» الذي استخدمته حكومتهما، في ما يجلّي النفاق الذي يحكم موقفهما)، متسائِلَين: «ولكن، هل من الواضح، أو حتى من المتوقّع أن يفضي إيذاء المدنيين والأطفال على الجانب الآخر، إلى وضع حدٍّ لجرائم الإرهابيين؟».
بحسب الأستاذَين، «تثير حماس الاشمئزاز في جميع أنحاء العالم»، بسبب ما وصفاه بـ«المذبحة التي ارتُكبت في حقّ المدنيين خلال الهجوم الذي وقع يوم السبت». وأشارا إلى أنه «لا يمكن أيّ هدف نَشَدَه الإرهابيون، أن يبرّر إطلاقاً الأذى المتعمّد للأبرياء». إلا أنهما اعتبرا أنه «يتربّص (بإسرائيل وجيشها) فخّ الشر ومصيدته»، حيث «نرى (وكأنهما يقفان خارج هذه الدائرة) معلّقين محترمين يشرحون أنّنا، منذ الآن، سنسوّي غزة بالأرض، وأنّنا من الآن فصاعداً، سنتوقّف عن تقييد أنفسنا بمختلف أنواع القيود الأخلاقية. يقولون «سندمّر حماس»، ولتحقيق هذا الهدف سنهدم المباني على سكّانها، وندمّر الأحياء، ونخلق كارثة إنسانية... سنجعلهم يدفعون ثمناً باهظاً». وإذا سرعان ما يعودان إلى خطاب الانتقام المكرور نفسه، بقولهما: «صحيح أنّنا نقاتل عدواً متوحّشاً يتخفّى ببقعة جغرافية من الأكثر كثافة سكانية في العالم، ويستخدم الأبرياء «دروعاً بشرية»، وهذه المرّة أيضاً مختطّفين منّا...»، ويوافقان على أنه «من غير المعقول أن تكون أيدينا مكبّلة: فمن أجل القضاء على الإرهابيين ووكلائهم، ووسائلهم القتالية، مسموح تفعيل القوّة حتى لو أدّى ذلك إلى الإضرار بالمدنيين الأبرياء»، لكنهما يستدركان بأنه «من غير المسموح أن يكون المدنيون بعينهم هم أهداف هذه الضربات».
لا شيء سوى عاصفة هوجاء من التحريض على الانتقام، والدعوة إلى القتل، وإلى مسح أحياء غزة عن بكرة أبيها، وإبادة ساكنيها


وفي طريقهما إلى «التفكير»، يتساءلان: «حسناً، دعا رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، سكّان غزة إلى «الخروج من هناك». ولكن أين يذهب مليونا إنسان؟ النوم، مثلاً، بين البساتين والكثبان؟ بلا طعام وشراب، بلا كهرباء ولا دواء؟ وإلى متى؟ ربّما لا يهمّ الأمر كثيراً، لأن وزير الأمن، يوآف غالانت، سبق أن أعلن أنه من الآن فصاعداً، سيكون هناك حصار شامل». وينقلان، وكأنهما يتحدّثان كمراقبَين من المريخ، أنه «من أجل تبرير هذا كلّه، يصف متحدّثو الحكومة من وزراء ومسؤولين، (مقاتلي) حماس، بأنهم «حيوانات بشرية». ويتابعان أن «نيّة المتحدّثين (المسؤولين الحكوميين) مختلفة: ليس فقط تشويه سمعة حماس ومقاتليها، بل كلّ سكان غزة، باعتبارهم دون البشر، وبالتالي سفك دمائهم». وفي هذه اللحظة «قد نمحو بأيدينا ما يميّزنا عن الإرهابيين». ثمّ يتساءلان: «كيف يمكن ألّا نردّ بكل قوّتنا على فظائع حماس؟»، ليجيبا: «من دون ردّ وحشي وقويّ، لن نتمكّن من وضع حدٍّ للهجمات الإجرامية التي يشنّها أولئك الذين يحتقرون القواعد الأخلاقية للحرب. وإذا كنّا بحاجة، من أجل تحقيق الردع، إلى الانتقام لسفك دماء بريئة، سنلوّث أيدينا». وبعد هذا الصخب، «ينشأ سؤال بسيط: هل من الواضح، أو حتى من المتوقّع، أن أفعالنا ستضع حدّاً لجرائم الإرهابيين؟»، ليقرّا بالتالي: «تُظهر التجارب التاريخية أن الانتقام عادةً ما يجرّ خلفه الانتقام، كما أن إيذاء المدنيين والأطفال يثير المزيد من الغضب ويشحذ الإرهابيين من جديد. إن الأذى المتعمّد للأبرياء هو أيضاً ضرر لمرتكبيه»، ليخلصا إلى أنه: «لا نستطيع أن نوجع الآخرين من دون أن نتأذّى، لا يمكننا حرمان الآخرين الأبرياء من حياتهم من دون أن نُحرم من شيء من وجودنا».
أمّا الأستاذ الفخري في الفلسفة والأخلاقيات المهنيّة في «جامعة تل أبيب»، والباحث الكبير في «معهد أبحاث الأمن القومي»، والعضو السابق في لجنة «شميغار»، آسا كوشر، فاختار الخوض في ملفّ الأسرى، من طريق انتقاد تنصّل القادة الإسرائيليين من مسؤوليتهم، إذ يقول: «من البديهي ألّا نكتفي بالغضب والحزن على صور الأسرى والمفقودين؛ إذ ينبغي أن نسأل ما هو واجب إسرائيل أمام كلّ جندي ومواطن أسير لدى العدو؟ وكيف بإمكانها تلبية واجبها تجاههم؟». ويضيف أنه «في الساعات والأيام الأولى من الحرب، سُمعت إجابتان اثنتان من السياسيين: الأولى، في جلسة الحكومة يوم السبت، حين قال وزير المالية والوزير في وزارة الأمن، ورئيس كتلة «الصهيونية الدينية»، بتسلئيل سموترتش، إنه «ينبغي علينا أن نكون قاسين منذ الآن، وألّا نفكّر كثيراً في الأسرى». ويوم الثلاثاء، قال «مسؤول سياسي»: «إن التعامل مع قضيّة المختطفين سيكون فقط بعد الحرب».
بحسب كوشر، «كلتا الإجابتين خاطئتان أخلاقيّاً ومهنيّاً»، إذ لا يجب أن يكون وارداً في الحسبان «التخلّي عن قضيّة المختطفين، والتعامل معها ودفعها إلى حين انتهاء الحرب». ولذلك، فإنه «ينبغي أن تُصبّ جهود الدولة نحو كيفيّة تحرير المواطنين والجنود من أيدي العدو، وهي جهود تشتمل في الأساس على عنصر المعلومات الاستخبارية التي بدأت بالفعل، ويجب أن تنعكس في التعبئة والاتصالات مع الدول والمنظّمات حول العالم من أجل تحريرهم». ومن بين هذه الدول، ألمانيا و«منظمة الصليب الأحمر» اللتان شاركتا في تجارب سابقة، لأنه «أخلاقيّاً ومهنيّاً من غير المسموح تأجيل هذه القضيّة إلى ما بعد انتهاء الحرب». ويتابع: «فكرة عدم المبالغة في الاهتمام بالأسرى لا تطاق. وعلى الدولة أن تعلن صراحةً أن عليها التزاماً تجاه جميع مَن هم في أيدي العدو، وأنها ستتصرّف كما ينبغي لإعادتهم إلى ديارهم بأمان، جنوداً كانوا أم مدنيين، أحياء أم قتلى. فلا يوجد وضع في العالم يكون فيه للدولة إذن بالتخلّي عن هذا الالتزام الأخلاقي. إن مثل هذا التنصّل هو علامة على الوحشية وعدم المسؤولية وسوء الفهم لقيمة هوية إسرائيل».
وعلى رغم إشارته إلى «المبرّرات الأخلاقية للعمل العسكري الحاسم ضدّ حماس وقدراتها العسكرية»، فهو يلفت أيضاً إلى أن «التبرير نفسه لا يجب أن يُنفّذ من دون أيّ قيود، أو حسبما تمليه زمجرة القلب. بل على الأنشطة العسكرية أن تكون خاضعة للقيود الأخلاقية ولقواعد القانون الدولي». وبحسبه، فإن السقف الأخلاقي الأعلى هو «واجب الحذر من الإضرار بالإسرائيليين الذين هم أسرى في أيدي العدو». وهو واجب «ينطوي على مسائل استخبارية وعملياتية معقّدة للغاية، لا تمتلك الدولة إذن التنصّل منها. وأبسط مثال على ذلك التعقيد: هل نقصف مبنى نعلم أن في داخله إسرائيليين في أيدي العدو، أم لا؟»، مضيفاً: «في كثير من الأحيان، لا يمكن تجنّب الإضرار بمواطني الدولة المعادية غير المشاركين في الإرهاب أو القتال، خاصّة في الحالات التي يعمل فيها العدو بالقرب منهم، ومتغطّياً بهم. وفي مثل هذه المواقف، يعرف القادة كيفيّة إجراء حسابات التناسب، ومقارنة المنفعة المتوقّعة من النشاط العسكري مع «الأضرار الجانبية» التي من المتوقّع أن يسبّبها، وخاصّة على حياة مواطني الدولة المعادية غير المشاركين... ولاعتبارات التناسب مبرّرات أخلاقية يحدّدها القانون الدولي، ويجب العمل وفقاً لها»، كما قال، مضيفاً أن «التخلّي عن الواجب الأخلاقي سيكون بمثابة انتصار لحماس التي ستنجح في فرض أعرافها الأخلاقية علينا».