في كل حرب، يسير الكلام عن التفاوض على خطّ موازٍ للكلام عن حجم الحرب وتوسّعها. في لبنان الذي اعتاد حروباً عدة مع إسرائيل، كان التفاوض دوماً ورقة على الطاولة منذ اليوم الأول للمعارك العسكرية، قبل اتّضاح مسارها النهائي. ورغم أن الآلة العسكرية لم تصل بعد، بمعناها الواسع، إلى الأراضي اللبنانية، إلا أن حرب غزة فتحت باب التساؤلات المشروعة عن أفق التفاوض في اليوم التالي للمعركة، سواء وقعت الحرب الإقليمية أولم تقع، وسواء توسّعت أو بقيت بحجمها الحالي. لأن جزءاً أساسياً من عملية التفاوض لن يبقى محصوراً في ما يمكن أن يحصل في غزة، بل سيتعداه إلى مناطق وجود القوى المنضوية تحت سقف واحد. وما حصل في دمشق وحلب أمس، واحد من النماذج التي بُعث برسائل تحذيرية في شأنها في الأيام الأخيرة. وهذا تماماً ما فرض إيقاعاً عربياً ودولياً، وطبعاً إيرانياً، في وقت يغيب لبنان الرسمي عن المشهد التفاوضي، بقدر غيابه عن قرار الحرب والسلم، وعن متابعة مجريات الوضع الداخلي تماشياً مع الاحتمالات المتوقّعة، رغم أن جزءاً من الكلام الدولي حول ما يحصل، يتناول لبنان في شكل واضح، ليس لجهة حزب الله وموقعه في المعادلة الإقليمية فحسب، بل أيضاً لجهة ما يمكن أن تتركه تداعيات الحرب على مستقبل لبنان.
الواضح أن هناك تسليماً غربياً وعربياً بعدم قدرة لبنان الرسمي على مواكبة ما يجري. هذا الكلام يقال في الإعلام الغربي كما في الدوائر الدبلوماسية والسياسية المعنية. لذا تنتقل وجهة القرار إلى مكان آخر، في اهتمام الدول المعنية بالتفاوض على وضع لبنان، وتحييده أو انخراطه في حرب غزة، أو نقل المواجهة إلى مكان آخر. بذلك يتكرّس وضعه الهامشي، وغياب قدرة القوى السياسية على التأثير في مجريات الحدث، ما عدا حزب الله بطبيعة الحال.
تسليم غربي وعربي بعدم قدرة لبنان الرسمي على مواكبة ما يجري


وفي مقابل بدء حركة إيرانية في المنطقة، لا يمكن النظر إليها إلا من زاوية أحادية، يصبح تعويل معارضي حزب الله على قدرة الدول العربية المعنية مباشرة - وأُولاها السعودية - على امتصاص آثار عملية حماس والحرب الإسرائيلية، قبل الحديث عن نقلها إلى لبنان. علماً أن هذه الدول ستكون منشغلة بالتخفيف من وقع الحملات الإعلامية الغربية والإسرائيلية التي تصوّب على أداء حماس رغم عدم علاقتها بها، بما تتركه من سلبيات على علاقة هذه الدول ليس فقط بإسرائيل، إنما كذلك بالمجتمعات الغربية، وبعواصم بنت علاقة ثقة بها، ولا سيما في ظل قواعد انفتاح كبرى سعت هذه الدول إلى إظهاره عبر حملات إعلامية واقتصادية وترويجية، كما جهدت لمحوه منذ 11 أيلول ومن ثم توسّع «داعش» وعملياته. فيما تحاول إسرائيل تظهير انتماء حركة حماس «السني»، في تحميلها مسؤولية ارتكاب أعمال عسكرية ضد المدنيين، وهذا من شأنه أن ينعكس على صورة العالم العربي ككل. ليس سهلاً، وفق ذلك، أن يكون «النفير» الذي دعت إليه حماس، مرصوداً غربياً في الدول العربية المذكورة، وتوقّع ما يمكن أن تسفر عنه في ترجمة ردّ الفعل العربي كدول ومجتمعات في التعامل مع ما يحصل في غزة. وعلى هذا الأساس، لا يعود لبنان أولوية في ذاته عربياً، في حماية موقعه، للتخفيف من احتمالات انتقال الحرب إليه. فظروف حرب تموز مختلفة تماماً، وظروف المنطقة كذلك وانشغال كل دولة بترتيب أوضاعها، علماً أنه في ظل الظروف الخطيرة، كان يُفترض بلبنان الانصراف إلى خطة مواجهة وليس الاختباء وراء ذريعة إمساك حزب الله بالقرار الأمني جنوباً.
أما غربياً، فكل ما جرى في الأيام الأخيرة أن لبنان تحوّل إلى صندوق بريد على قدر ما يمكن أن تمثله الدبلوماسية الأميركية وبعض الدول الأوروبية التي تُعنى عادة بالشأن الأمني. وكانت الرسائل تحمل إشارات تحذيرية من خطر داهم، لم ينته مفعوله بعد، وهذا الأمر عكسه جدياً تحرك دبلوماسي غربي في اتجاهات محددة لرصد أداء حزب الله وما يمكن أن يكون عليه ردّ فعله إزاء ما يمثله كل تطور عسكري جنوباً. ورغم محاولات خجولة من بعض أصدقاء لبنان لتحييده، إلا أن سياق الأحداث يجعل أنظار هذه الدول تنحرف تلقائياً نحو إسرائيل، فلا يتعدّى الاهتمام حالياً بلبنان السعْي إلى ضبط إيقاع الحرب، فلا تنفتح جبهة الشمال الإسرائيلي، تحت عنوان عدم قدرة لبنان على تحمّل أضرار الحرب المقبلة، وعدم استعداد الدول إياها لإنقاذه اقتصادياً كما فعلت في مرات سابقة. وبذلك يستكمل مسار تطبيع الوضع اللبناني بالحد الأدنى، عملاً بالأشهر السابقة التي جعلت الوضع اللبناني على حافة الانهيار من دون انزلاق تام نحو الفوضى الشاملة، ما يجعل لبنان على قائمة الانتظار كي تتبلور المساعي المتحرّكة من إيران إلى واشنطن وإسرائيل، لأن من الصعب التكهن باحتمالات حرب الاستنزاف، أو ترجمة التهديدات المتبادلة، وما يوضع على طاولة التفاوض من شروط وشروط مضادّة.