1800 شهيد، وآلاف الجرحى، وعدّاد الموت في غزة لا يكفّ. لكنّ الرقم على فظاعته لا يعود مهماً حين يصبح الوجود شاهقاً إلى حدّ لا تبلغه الأبصار. فلكلّ شهيد حكايته التي ستمتدّ إلى ما لا نهاية في عالمٍ موازٍ لا يُسمعُ فيه رعيد الصواريخ، ولا تحترق فيه الأجساد بالفوسفور، ولا تَصبّ فوقه الطائرات حِممها، ولا تُدمّر فيه الأبنية، ولا تُسوّى فيه حارات كاملة بالأرض، ولا يمشي فيه الناس هائمين على وجوههم، حفاة متأبّطين حقائبهم من موت إلى موت، وتحت زخّاتٍ من نار.يوم السبت الماضي، شهقت أمّ نبيلة نوفل حين وضعت طفلتها أخيراً، وسُمع صوت بُكائها في أروقة المستشفى. الجيران والأقارب عدّوا الطفلة بشارة خير ومعجزة أتى بها «طوفان الأقصى»، ومنذ ذلك الحين صار اسمها نبيلة. لكنّ حياة نبيلة، ابنة الأيام السبعة، انتهت أمس، بكبسة زرٍ من طيّار إسرائيلي كان يحتجّ بوقاحة في شارع «ديزينغوف» في تل أبيب منذ شهور، مُطالباً بالحفاظ على طابع «حداثي وديموقراطي» لدولته التي سرقت أرض نبيلة وأجدادها. كان يحتجّ لكي «ينجو» من المساءلة في عالم الغرب الأبيض الذي يفضّل القتل بـ«الشوكة والسكين وكأس من النبيذ الفاخر». لكن مع حلول يوم السبت، اطمأنّ هذا الطيار أخيراً إلى أن بإمكانه مسح غزة عن بكرة أبيها، فيما الغرب الأبيض يصفّق له، ويمدّه بوقود الانتقام اللازم، ويشجّعه على سحق مليونَي إنسان مثلما تُسحق قطعة بسكويت.
في خضمّ الجحيم المستعر هذا، كانت نبيلة من بين المحظوظين؛ إذ لفّها مشيّعوها بقطعة قماش خضراء عليها شريط أبيض، وعلى الأخير كُتبت بخطّ عريض عبارة: الشهيدة نبيلة نوفل، فيما كثيرون لم تتبقَّ منهم سوى آثار توضع في أكياس بيضاء ويُكتب عليها، أشلاء. محظوظة هي لأن هناك من بقي ليتعرّف إلى هويتها، والآن ستكون محظوظة أكثر إن تمكّنوا من دفنها في قعر الأرض، قبل أن يأكلها الدود فوقها، لأن ثلاجات الموتى اكتظّت، والمقابر في درجة التشبّع، والمُشيّعين قد يقضون هم أيضاً في طريقهم إلى هُناك. هل بكت نبيلة قبل القصف طالبةً رضعتها الأخيرة؟ أكانت تشعر بالبرد؟ هل كانت أمها تحاول تهدئتها؟ أكانت تسمع صوتها وهي تغني «يلا تنام» وهدأت؟ أم ظلّت تبكي؟ يقول من خبروا الحرب إن هواء ساخناً يهبّ حين تقصف الطائرات، ثمّ يهدأ كلّ شيء. لكن كلّ شيء هناك يظلّ يصرخ حتى الموت، مطلقاً صوتاً أشبه بخروج المارد من قمقمه، إلا نبيلة التي أغمضت عينيها بصمت أمام عدسات الكاميرا، ولم يعُد أحد يسمع صوت بُكائها، ولا أحد بعد الآن سيكون بمقدوره أن يعرف ما إن كانت تشعر بالبرد أم بالجوع.
فجر أول من أمس، استشهد 44 فلسطينياً من عائلة واحدة هي عائلة شهاب، بفعل غارة إسرائيلية


فجر أول من أمس، استشهد 44 فلسطينياً من عائلة واحدة هي عائلة شهاب، بفعل غارة إسرائيلية على منزلهم في جباليا، بينما كانوا نياماً. هكذا، ببساطةِ كبسة زر لم يبقَ منهم أحد، فيما «فاز» الطيار الذي يعمل في أوقات الفراغ خارج خدمته الاحتياطية، في إحدى شركات «الهايتك» في مستوطنة «يُكونعام» جنوبي حيفا المحتلة، كبطل لعبة عنف إلكترونية تتمتّع فيها إسرائيل بميزة امتصاص دم الأجساد الفلسطينية، أو «الحيونات البشرية» التي أوجدها «يهوه» لخدمة بني إسرائيل المتفوّقين عرقياً، بالضبط مثل الآريين.
عبد الرحمن شهاب، فكّر، من جهته، أن ينجو بنفسه. قبل سنوات، فكّت إسرائيل قيوده، وأطلقته إلى قطاع غزة بعد 20 عاماً قضاها في معتقلات الاحتلال. شأنه شأن نبيلة، يبدو محظوظاً عبد الرحمن، إذ طبّق وصية الشاعر الأبنودي: «إوعى تعيش يوم واحد بعد عيالك/إوعى يا عبد الرحمن/ في الدنيا أوجاع وهموم أشكال وألوان/ الناس مابتعرفهاش. أوعرهم لو حتعيش/ بعد عيالك ماتموت /ساعتها بس... حتعرف إيه هوّه الموت». أخذ معه زوجته ونجله بلال وابنتيه لوتس وريتا. لم يذرف أحدٌ دمعة واحدة على عبد الرحمن، لا بل حسدوه لأنه استشهد مع عائلته، فالقانون الساري هناك هو: عائلة أفضل من فرد. آخرون لا يطبّقون هذا القانون، بل يواصلون الإصرار على الحياة، فيوزعون فلذات أكبادهم على حارات عدّة، لعلّ حارة واحدة بينها تنجو فيبقى للعائلة أثر واسم.
«قتلت إسرائيل قبل قليل أغلى الناس على قلبي. قتلوا قلبي حرفياً. أختي حبيبة قلبي وروحي وعمري كله وبناتها وأولادها وزوجها. ارتكبوا مجزرة في حياتي. أسمع شيئاً واحداً يتردّد في أذني منذ الصباح ولا أقوى على فعل شيء. تقول إيلين وسيلين ابنتا أختي (هديل) جملتهما المشهورة على الهاتف: «خذنا عندك يا خالو. بنفع أجي أنا يا خالو؟». هذا ما كتبه كريم أبو الروس، بعد تلقّيه نبأ استشهاد أقاربه في قصف استهدف منزل آل الخياط في رفح، بينما يقيم هو في غربته في بلجيكا، كونه متزوّجاً من ميساء منصور، ابنة مجد الكروم في الأراضي المحتلة عام 1948، وإسرائيل لا تسمح لهما بالعيش معاً في أيّ مكان من فلسطين. والآن، لم تتورّع إسرائيل نفسها عن إبادة فكرة أن يلهو طفلهما غسان وأبناء عمّته هديل معاً.
أمّا أمّ سمير القطناني، فلم تكن أبواب السماء مفتوحة لصرخةٍ أطلقتها مطلع العام في وداع نجلها الثالث، حين خاطبت الربّ قائلةً :«يا ربّ أعطيتني ياهن ستة شباب وبتوخذهن مني واحد واحد. وأنا يا رب ليش مش معهم؟». لكن أخيراً، أجاب الله سؤالها و«أخذها» مع خمسة عشر آخرين من عائلتها دفعة واحدة في أوّل صاروخ قذفته الطائرات الحربية الإسرائيلية. وفي منطقة الصفطاوي شمالي غزة، حطّ «يوم القيامة» ليل أول من أمس، حيث رمت الطائرات كتل الجحيم على خمسين فلسطينياً من عائلة أبو حية. من حضر «يوم القيامة» هذا، راح يحفر الركام بحثاً عن حياة: لا ضوء، لا جرافة، لا معدّات حفر... لا شيء، فقط أظفار وأيدٍ مُدماة فحسب. وفجأة، بدأ الأحياء يخرجون من باطن الأرض، وجوههم مغبرّة، وكأنهم صعدوا إلى السماء في زمن غابر، وعادوا. هؤلاء يُسمونهم في قاموس الحرب «السالمين». أطبق الركام على قصص كثيرة هناك: طفلة انتُشلت وهي تسدّ أذنيها. طفلٌ قضى في حضن والده. عائلة بأكملها على مائدة العشاء لم يتبقّ منها أحد ليروي ما كان آخر حديثها قبل القصف، قطط تمشي هائمة وباحثة عن شربة ماء... وعن يد صاحبها، يد واحدة مرفوعة تلوّح من العالم الآخر.