عمّان | عبّر الشارع الأردني عن موقفه من أحداث غزة بطريقة لا تترك مجالاً للشك: «قالوا حماس إرهابية؟ كل الأردن حمساوية». وخرج آلاف الأردنيين إلى شوارع المدن دعماً لعملية «طوفان الأقصى» وخيار المقاومة المسلّحة لتحرير فلسطين. ومنذ بدء العملية، دعا «ملتقى دعم المقاومة» إلى وقفة احتجاجية قرب مسجد الكالوتي في عمّان، رافقتها احتجاجات من مخيمات اللجوء الفلسطينية، وعدد من الجامعات الرسمية. وتزامنت غالبية التحركات مع صلاتَي المغرب والعشاء؛ وبذلك، كانت الفعالية الواحدة تنطلق على الأقلّ بمجموع المصلّين في المسجد، الذي تحوّل دوره منذ زمن، من الحشد الثوري ودعم هموم الناس، إلى نشر بروباغندا الحكومة ودعوة الشعب إلى الصبر على الفقر. وبخلاف تنازع الكتل الطالبية على شكلها ومضمونها، سارت الوقفات الجامعية على ما يرام، ما عدا وقفة «الجامعة الهاشمية»، حيث قرّرت عمادة شؤون الطلبة إنهاءها بعد بدئها بخمس دقائق، على رغم أن العمادة نفسها كانت قد دعت إلى الوقفة والتقطت صوراً ترويجية لها مع الطلبة المحتشدين. وعلى خلفية الإلغاء، دعت «كتلة العهد الطلابي» إلى مسيرة أخرى تجوب الجامعة ولا تستلزم موافقة العمادة ولا مشاركتها. ودفع ذلك جامعات أخرى، بما فيها الخاصة، إلى التخلّي عن الدعوات التضامنية الخجولة والحشد لتنظيم وقفات احتجاجية جادّة.إلّا أن كلّ هذه الوقفات لم تَخرج عن نطاقها المتوقّع، حتى في الوقفة الحدودية، التي وصل إلى آخرها 30 شخصاً فقط، بعد أن أغلقت دوريات الأمن جميع الطرق المؤدية إلى مكان الاحتجاج في ساحة الجندي المجهول في بلدة الكرامة الحدودية. واعتقل رجال الأمن نصف المشاركين لمدّة ساعتين في مخفر أمن الشونة، من أجل فضّ الوقفة ومنع استمرارها حتى في محيط مكان الاحتجاج. وفي 10 تشرين الأول الجاري، حشد «حزب جبهة العمل الإسلامي» لوقفة في وسط البلد، كانت هي الأضخم كماً ونوعاً، بحضور أكثر من عشرة آلاف أردني هتفوا لمدة ثلاث ساعات انتقاداً للوصاية على المقدّسات، والدور الأميركي العسكري في دعم الاحتلال، ومطالَبةً بفتح الحدود. وأعادت هذه الوقفة إلى الفعل الاحتجاجي زخمه، ومركزيته في مكان يتوسّط العاصمة ولا يرتبط بشريحة مجتمعية اقتصادية محدّدة. ولذلك، جمّعت الأحزاب وقفاتها ودعت إلى مليونية بعد صلاة يوم الجمعة الماضي في منطقة رأس العين القريبة من وسط البلد. ورصدت كاميرات أهالي المنطقة عشية الفعالية، إغلاق الساحة بشاحنات المياه وتمركُز القوات الأمنية قبل موعدها بثلاث ساعات. وعندما بدأ توافد المشاركين مبكراً، دفع الأمن بالمتظاهرين حتى عادوا إلى منطقة الاحتجاج. وبعد انتهاء الصلاة، كان لا يزال هناك آلاف الأردنيين فيما امتدّت المسيرة من المسجد الحسيني حتى رأس العين.
وبالتزامن مع ذلك، توجّه مئات الشبان الأردنيين إلى الحدود غير آبهين بقرار «الداخلية» منع التظاهر في مناطق الأغوار والحدود، وقيام الأجهزة الأمنية بكلّ التدابير لمنع ذلك. وقبل أن يقترب الشبّان من مكان الاحتجاج، أعاق الأمن وصولهم، فتركوا سياراتهم في الشارع ونزلوا سيراً على الأقدام، وهم يهتفون للمقاومة في غزة. لكنّ الأمن واجههم بقنابل الغاز، فنظّم جزء منهم وقفة هناك على الطريق المؤدّي إلى الحدود، فيما عادت بقيّتهم إلى المشاركة في وقفة وسط البلد. هكذا، فجأة، أصبحت منطقة الأغوار والمناطق الحدودية محظورة، وتتولّى القوات المسلحة حمايتها وضبط الأمن فيها، بحسب إعلان «الداخلية»، على رغم أن الأمن نفسه يسّر وصول المواطنين إلى هذه المناطق في الاحتجاجات الشعبية التي رافقت عملية «سيف القدس» قبل عامين. وبهذا، تُقلّص الحكومة، مع الوقت، الأماكن «المسموحة» للاحتجاج، إمّا لطلبات إسرائيلية متّصلة بتزايد عمليات تهريب الأسلحة والتسلّل بين الضفّتَين، وإمّا لأن المسؤولين الأردنيين أخذوا موقفاً شخصياً من تأثير محمد الضيف الذي لبّى الأردنيون نداءه للاحتجاج. وعلّقت صفحة «الموساد الساخر» على منصة «X» على مشهد قمع المتظاهرين في وقفة الحدود، بأن «القوات الأردنية اصطفّت على الحدود مع إسرائيل لمنع أنصار الإرهاب من الوصول والهجوم. رفاهية لم نكن نملكها في أعوام 1948 و1967 و1973»، بينما غابت الأذرع الإعلامية الرسمية، وأبرزها «قناة المملكة» عن الإشارة إلى هذه الوقفة. وعندما دعت الأحزاب الأردنية إلى وقفة، أول من أمس، قرب السفارة الأميركية بالتزامن مع زيارة وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، لعمّان، للقاء الملك عبدالله الثاني ورئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، أغلقت القوات الأمنية جميع المنافذ المؤدية إلى السفارة وحاصرت المحتجّين حتى فرّقتهم. لكنّ مجموعة قارب عددها الـ200 شخص تمكّنت من التوقّف في منطقة قريبة، وهناك هتفت: «الحكومات العربية، حكومات صورية، أما الحكومة الفعلية، فهي السفارة الأميركية».
مع هذا، فقد الفعل الاحتجاجي في الأردن معناه بعد احتجاجات الدوار الرابع عام 2018، والتي أسقطت حكومة هاني الملقي، لكنها لم تحمل تعديلات جدّية في قرارات الحكومة السياسية والاقتصادية. كما لم تقدّم الوقفات الاحتجاجية المرتبطة بفلسطين أيضاً أكثر من قيمة رمزية وتوعوية، إذ لم تفلح الحشود الرافضة لاتفاقية الغاز الأردنية - الإسرائيلية أو اتفاقية المياه مقابل الطاقة، في التأثير على قرار الحكومة التي مرّرت مشاريع الارتهان هذه من دون استشارة مجلس النواب.
كذلك، تحوّلت الوقفة بجانب مسجد الكالوتي الذي يبعد عن السفارة الإسرائيلية كيلومتراً ونصف كيلومتر في منطقة الرابية، إلى فعالية أكثر من كونها فعلاً احتجاجياً، حيث تمركزت في مكان محدّد لا يستطيع المحتجّون تجاوزه بمتر واحد، على رغم أن طاقم السفارة الإسرائيلية غادر المبنى منذ بدء العملية. وبعد ساعة، قال رجال الأمن للمتجمّعين: «يلا خلصنا، كلّ واحد على داره».
الاحتجاجات في الأردن تجاوزت مفهوم التضامن بكثير، لكنها لم تدخل بعد في حيّز التأثير على القرار الرسمي


وتعوق هندسة الاحتجاج في الأردن استكشاف مساحات أخرى لتنظيم الوقفات، إذ أغلقت الحكومة الدوار الرابع المحيط برئاسة الوزراء، وخصّصت ساحة الكالوتي المربّعة لوقفات فلسطين. وعلى رغم أن قانون الجمعيات العامة الأردني لا يخوّل محافظ العاصمة قبول أو رفض حدث معين، إذ يُلزم المنظّمين فقط بإبلاغه لأسباب أمنية، إلا أن الممارسة العملية تشير إلى صلاحية المحافظ منع عقد وقفة قبل إعلانها وحتى إلقاء القبض على المنظّمين، في ما يتم تبريره بـ«الاعتقال الاحترازي». ولم يكن مؤسفاً بالنسبة إلى الأردنيين أن الموقف لم يرقَ إلى طموحهم، بقدر ما كان مؤسفاً أن الحكومة لا تريد تصدير موقف من الحرب على غزة، ولا تسمح للشعب بتقديم موقفه في الشارع. وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، تداول الأردنيون منشوريْن: الأول هو للملكة رانيا على «إنستغرام» تقول فيه باللغة الإنكليزية: «ليس دفاعاً عن النفس عندما تكون قوة احتلال»، والثاني مزاعم توجّه طائرة أميركية من قاعدة عسكرية أردنية إلى الأراضي المحتلة. ونفى الجيش الأردني، في بيان، ما سماه «مزاعم كاذبة يتمّ تداولها» حول «استخدام القواعد العسكرية الأردنية من قبل الجيش الأميركي لنقل إمدادات لإسرائيل»، مؤكّداً أن الطائرة المشار إليها عبرت الأجواء الأردنية بعد منحها تصريح عبور وفق الإجراءات القانونية، وأنها «تحمل ركاباً ولا تحمل أيّ معدات». وبعد يومين من نفي الادّعاءات، أكّد الحساب الرسمي للقوات الجوية الأميركية على «X» وصول طائرة بريطانية من طراز «F-15E Strike Eagle» إلى منطقة القيادة المركزية الأميركية في الأردن، لتعزيز الموقف الأميركي والعمليات الجوية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، بما فيها «القتال بين حماس وإسرائيل». على أيّ حال، إذا كانت أميركا لم تستخدم قواعدها في الأردن هذه المرّة، فبالتأكيد هي لم تتكبّد مليارات المساعدات والمعدات العسكرية لتزيين صحراء الأردن فحسب، بل إن اتفاقية الدفاع المشتركة بينها وبين عمّان لعام 2021 جاءت لضمان صلاحيات أميركا وقواعدها على الأرض الأردنية. وتتيح اتفاقية «وضع القوات» التي وقّعتها الحكومة الأردنية عام 1996، للقوات الأميركية وأسلحتها الدخول إلى الأراضي الأردنية والخروج منها من دون أن تخضع للتفتيش، عدا تخزين الموارد في 15 منشأة عسكرية من دون ضرائب أو جمارك، وضمان حرية ارتداء اللباس العسكري وحيازة السلاح.
بالنتيجة، تجاوزت الاحتجاجات في الأردن مفهوم التضامن بكثير، لكنها لم تدخل بعد في حيّز التأثير على القرار الرسمي، أو تهديد الاتفاقيات التطبيعية مع إسرائيل والارتهانية مع أميركا، أو حتى إتاحة هامش أكبر من التعبير عن الرأي بعد إقرار قانون الجرائم الإلكترونية منذ شهرين. لكن أخيراً، ناشدت وزارة الصحة الفلسطينية الملك الأردني الإبقاء على المستشفى الميداني في غزة وكوادره، في ظلّ استنزاف الموارد الطبية وانهمار الصواريخ على المدنيين. وبعد أن أعلنت وسائل إعلام أردنية أن المستشفى خرج عن الخدمة بشكل تامّ جراء القصف الإسرائيلي المكثّف على المناطق المحيطة به، وجّه الملك بإبقائه، في ما يبدو أن هذا هو أقصى ما يستطيع فعله.