ومن الطبيعي، في هذه الحال، أن يكون إيلون ماسك، اليهودي، الذي اجتمع ذات يوم برئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، هو «المذنب»، على رغم أن شركته قامت بحذف أو تصنيف عشرات الآلاف من المنشورات ذات المحتوى المؤيد لعملية «طوفان الأقصى». صار الرجل، في نظر صحيفة «يديعوت أحرونوت»، «أخطر معادٍ للسامية في العالم»، لا فقط لأن منصّته تفيض بالمواد التي تندرج في هذا الإطار، بل لأنه هو نفسه «طرح عدّة ادّعاءات ضدّ اليهود». تلك الحقائق تصعّب المهمّة على الدول الغربية الداعمة لإسرائيل، والتي وجدت رأيها العام يفلت من بين أيديها، فاضطرّت للتكشير عن أنيابها، وممارسة ضغوط لم يعتد عليها مواطنوها. من الأمثلة على ما تَقدّم، رفض محطة «بي بي سي»، وصف حركة «حماس» بالإرهابية، على رغم ضغوط وزير الدفاع البريطاني، غرانت شابس، وتبريرها ذلك بأنه ليس من مهمّاتها القول للناس من يجب أن يؤيّدوا أو يُدينو. هكذا، سقطت فوراً محاولات العدو تصوير ما جرى على أنه «11 أيلول الإسرائيلي»، ومعها الاستماتة في تشبيه المقاومة الفلسطينية بتنظيم «داعش»، بعد فشل سردية قطع الرؤوس واغتصاب النساء، والتي صدّقها الرئيس الأميركي، جو بايدن، في حديثه عبر الهاتف مع نتنياهو، ثم كذّبها فور نهاية المكالمة.
تورّط أميركا عسكرياً قد يضيف هزيمة جديدة لها في جبهة أخرى من جبهات الصراع العالمي التي تتزايد في وجهها وتنال منها
ولعلّ هذا الانقلاب يصبح أكثر خطورة، عندما تتوفّر قوى في العالم، مستعدّة لاغتنام فرصة تورّط الولايات المتحدة في الصراع، لتصفية حسابات طويلة معها. وأول هؤلاء الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. إذ على الرغم من أن حساب بوتين هو مع الولايات المتحدة لا إسرائيل، فإن ذلك لا يغيّر بالنسبة إلى العدو حقيقة أن الرجل صار في الموقع المعادي. فلا هو اتصل بنتنياهو لتعزيته بقتلى إسرائيل ولا هو دان عملية «حماس». لا بل إنه فعل العكس بالضبط، بتحميل واشنطن مسؤولية ما يجري لفشلها في حلّ الصراع، عبر انحيازها المطلق إلى تل أبيب. والحال نفسه ينسحب على الصين، التي رفضت هي الأخرى إدانة عملية «حماس»، فيما تنتظر أن يرسو غبار الحرب على هزيمة منكرة للولايات المتحدة والتحالف الذي تقوده، بمعزل عن علاقة بكين بتل أبيب نفسها. فبالنسبة إلى الصين، هذه هي السياسة البعيدة المدى لاحتواء الأحداث بدل الانخراط الساخن فيها. هكذا حصل سابقاً في سوريا، وهكذا يحصل حالياً في أوكرانيا.
وهذه هي المرّة الأولى التي تخوض فيها المقاومة، والعرب عموماً، حرباً رئيسة ضدّ إسرائيل، في ظلّ التوازنات الدولية الجديدة التي ظهّرتها حرب أوكرانيا، والتي صارت تتيح إمكانية الانخراط في حرب تحرير ناجحة عسكرياً، وقابلة للتسويق دولياً. وهذا يحصل أمام عين الشعوب العربية التوّاقة إلى امتلاك هكذا خيار، وأمام أعين الإسرائيليين أيضاً. أضف إلى ما تَقدّم، تراجع قدرة الولايات المتحدة على حماية البنى التي أقامتها في المنطقة خلال عشرات السنين، بما فيها الأنظمة الحاكمة. وهي الحرب الأولى أيضاً التي قد يعني تورّط الولايات المتحدة عسكرياً فيها، هزيمة جديدة لها في جبهة أخرى من جبهات الصراع العالمي التي تتزايد في وجهها وتنال منها.
صورة أخرى من صور خسارة الحرب السياسية، قبل أن تبدأ جنازير الدبابات في الدوران نحو غزة لخوض الحرب البرّية، كان الانقلاب في موقف ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، الذي يتصرّف كما لو أنه نجا من فخّ التطبيع الذي نصبته له إسرائيل وأميركا. صار الآن مضطراً لتقديم صورة مختلفة لنفسه، بوصفه متمسّكاً بالحق الفلسطيني، بعد أن كان على وشك التفريط به. وأعاد حساباته كلياً، فأوعز إلى معاونيه بتسريب خبر وقف محادثات التطبيع، والقول إنها حتى لو استؤنفت في وقت ما، فإن حقوق الفلسطينيين ستكون على رأس أولويات المملكة فيها. كما أرفق كلّ ذلك بتلقي اتصال مطوّل من الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، أوحى بنيّة الأول المضيّ في خيار التوافق مع إيران بموجب «اتفاق بكين». ويبدو أن ابن سلمان، الذي يعرف جيداً حجم معارضة مواطنيه للتطبيع، يخشى من مصير مشابه لمصير سلسلة مطاعم «ماكدونالدز» في السعودية، والتي أصدرت ما يشبه الاستغاثة بفعل المقاطعة، بعدما رأى السعوديون فروع الشركة في إسرائيل توزّع وجبات مجانية على جنود الاحتلال على الجبهة.
الحرب هذه لم تكن اختيارية بالنسبة إلى دولة الاحتلال. هي بداية حرب تحرير، تختلف عن كلّ الحروب السابقة، بما فيها حرب تشرين التي استطاعت إسرائيل استعادة زمام المبادرة فيها بفضل الدعم الغربي، بعد أن ذاقت طعم الهزيمة في بدايتها. وهي تثبّت حقيقة أن ثمّة في المقاومة، من هو متفوّق على الجيش الإسرائيلي، ولو ليس بعد بالقوة النارية. سيكون من الصعب على إسرائيل، والحال كذلك، استعادة المبادرة.