تكالب الغرب بحكوماته ووسائل إعلامه علينا. تبنّت الحكومات والإعلام دعاية وخطاب الاحتلال الصهيونيّ وقدّمت له شيكاً على بياض ليتابع خطّته التي بدأها عام 1948 بطرد الفلسطينيّين من أرضهم وارتكاب المجازر بحقّهم. ولم تكتف الحكومات الغربيّة بذلك، بل، وفي سياق محاولات تجريم أيّ نقد لإسرائيل، حاول بعضها منع رفع العلم الفلسطينيّ، بل ومنع التظاهر، ضاربةً عرضَ الحائط بمجموعة المبادئ العليا حول الديموقراطيّة وحقّ التعبير، فبدا جليّاً أنّها تستخدم تلك المبادئ فقط إن كانت تخدم مصالحها وهي مستعدّة لضربها، لو تسمح القوانين. كندا، بجميع أحزابها الكبرى الثلاثة وجميع وسائل إعلامها، وقفت موقفاً نذلاً مؤيّداً دون تحفّظ لدولة الاستعمار الصهيونيّ، وروّجت جميعها للدعاية الصهيونيّة، مشيرة بمواقفها هذه بما لا يرقى إليه الشكّ إلى تجذّر العنصريّة في النظام السياسيّ والإعلاميّ فيها. عدا التضليل، كان إخفاء الحقائق والتركيز المطوّل على مشاعر سكّان دولة الاحتلال هما المسيطريْن على الإعلام. أمّا استشهاد الصحافيّ اللبنانيّ بقصف إسرائيليّ، فمرّ في الإعلام من دون تحديد لأسباب مقتله، فبعد دقيقة من إعلان المذيع على الـ «سي بي سي» (الجمعة الماضية) بالصوت والصورة استشهاد عصام عبدالله وأنّه لم تُعرف الأسباب، مرّ الخبر نفسه بعد دقيقة بكتابة صغيرة (أثناء كلام المذيع عن أمر آخر) محدّداً القصف الإسرائيليّ كسبب للاستشهاد، ولكنّ «سي بي سي» تعرف أنّ تركيز المشاهِد هو على الصوت والصورة المؤثّرَين، والخبر المكتوب قد لا يُقرأ. أمّا رئيس الوزراء الذي التقى بجماعات الصهاينة في العاصمة أوتاوا (بينما التقت نائبته بها في تورونتو)، فقدّم خطاباً صارماً جازماً أكّد فيه دعم كندا الثابت لـ«إسرائيل»، ثم بعد أيّام عاد وقدّم كلاماً إنشائيّاً ناعماً في تصريح تافه يقول فيه بضرورة احترام القوانين خلال الحرب. بالطبع الخطاب الأوّل هو موقف حكومته الحقيقيّ لأنّ الثاني لم يسمِّ «إسرائيل»، ولم يترافق مع نقد صارم لنظام الاحتلال والفصل العنصريّ الصهيونيّ، السائر إلى زوال بالطبع، ونعرف أنّه سائر إلى زوال لاستنفار الغرب لدعمه. إن كان من غشاوة على عقل أحد فاليوم حكومات الغرب تساعدنا نحن الكتّاب في رفع الغشاوة: هناك حرب غربيّة استعماريّة علينا نحن شعب هذه المنطقة، حربٌ تخوضها حكومات أوروبا وشمال أميركا، حربٌ تنتهج سياسات عنصريّة فوقيّة استعماريّة تجاهنا، حربٌ تريد تحويلنا وتحويل أولادنا إلى عبيد، مستهلكين خانعين خائفين ذليلين، وتريد تحويل بلادنا إلى هوامش ربحيّة للغرب. مَن لديه ذرّة عقل يفهم اليوم أنّ إسرائيل هي قلعة استعماريّة غربيّة مدجّجة بالسلاح هدفها الوحيد هو إخضاعنا لكي يجني المستعمرون المال (بترول، غاز، أسواق تجاريّة). لهذا، فإنّ الدولة الصهيونيّة ليست مشكلة الفلسطينيّين، هي مشكلتنا جميعاً، لأنّها استعلائية استعماريّة عنصريّة، مدعومة من حكومات عنصريّة استعلائية استعماريّة.
الفلسطينيّون ليسوا بحاجة إلى تبرير مقاومتهم أمام الغرب. من الجيّد أن يخاطب المثقّفون الغرب، من الجيّد أن نسعى نحن الذين نعيش في الغرب، وأن يسعى المقاومون على الأرض، إلى مخاطبة العقل والضمير لدى شعوب العالم كلّه، ليقف هؤلاء إلى جانب الحقّ الفلسطينيّ، فموقف الشعوب يؤثّر بالضغط على حكومات الغرب. ولكنّ خطاب العقل والضمير ليس موجّهاً إلى حكومات الغرب، فحكومات الغرب ووسائل إعلامها عنصريّة، لا يمكن تغيير سياساتها إلّا بالضغط الشعبي الداخليّ (ومن هنا ضرورة خطاب الشعب). ولكنّ حظوظ التغيير حاليّاً ضئيلة، خصوصاً مع تفكّك العمل العربيّ الواسع المترابط في الخارج، وانعدام العمل الحكوماتيّ العربيّ لدعم الفلسطينيّين، لذا من الغريب أن يتساءل مذيع أو مثقّف على وسائل إعلامنا العربيّة أنها لماذا تكيل حكومات الغرب بمكيالين؟ وسائل الإعلام يمكنها أن تفضح الكيل بمكيالين من دون أن تستغرب، وعوض أن تتساءل أن لِمَ هذا التعامل غير العادل، يمكنها أن تحلّل أسبابه وتفضح عنصريّته، والدوافع الاقتصاديّة وراءه. حكومات الغرب واعية تماماً لكيلها بمكيالين، سياستها قائمة على الكيل بمكيالَين، المهمّ أن نعي أنّها واعية لكيلها بمكيالين وبأنّها عنصريّة ومصلحتها أن تستعبدنا؛ هي أصلاً عصبة رأسماليّة لا تسعى سوى إلى الربح الأقصى وهذا غير ممكن إلّا باستغلالنا وإبادتنا إن اقتضت ضرورة الربح. الأمر بهذه البساطة وبهذا التعقيد.
الكرة في ملعبنا: هل نخضع أم نقاوم؟ ما مِن حلٍّ بين بين: إمّا الحياة الحرّة أو الاستعباد. التعامل العادل لا يأتي بالإقناع، هو يأتي بالقوّة، بأن تقف وتقاوم وتتابع وتنتصر. عندها يسمع العالم لك. خطاب القلم، وخطاب الأديان، وخطاب حقوق الإنسان، وخطاب الأخلاق، وخطاب حركة المقاطعة، كلّها خطابات جيّدة وضروريّة ويمكنها أن تدعم الحقوق المشروعة والكاملة للشعب الفلسطينيّ، وحقوقنا جميعاً، نحن شعب هذه المنطقة، ولكنّها غير نافعة إلّا حول حركة مقاومة. خطاب حركة المقاطعة لن يمكنه وحده هزم المشروع الصهيونيّ، وما حدث في جنوب أفريقيا كان مترافقاً مع حركة تحرّر تستخدم السلاح، ومانديلا نفسه الذي استقبله الغرب مضطرّاً كان يصفه بالإرهابيّ. ثمّ إنّ المشروع الصهيونيّ ليس مجرّد مشروع تمييز عنصريّ، وإنّما هو مشروع إحلاليّ يسعى لطرد السكّان الأصليّين (أو إبادتهم لو تسنح له الظروف)، هو مشروع استعلاء عنصريّ ضدّ سكّان المنطقة بأجمعها. عدا تحلّق الخطابات المختلفة حول المقاومة المسلّحة هناك ضرورة لفضح خطاب «الحياد»، فعدا سفالة ولا أخلاقيّة هذا الخطاب وصبّه في خانة دعم الاحتلال بحياديّته المزعومة، فهو خطاب لا عقلانيّ أهبل، لأنّ الحياد غير ممكن أصلاً؛ فالعدوّ نفسه ليس محايداً تجاهك، تجاهك أنت العربيّ من أيّ بلد كنت، وتجاهك أنت الإنسان اللبنانيّ، أو الفينيقيّ إن شئت. المشروع الصهيونيّ مشروع مبني على الاستعلاء العنصريّ، هذا ما نلمسه في فلسطين، ولم يكن وصفه على أنّه فكر عنصريّ في الأمم المتّحدة عبثاً. أمّا مَن يدعو إلى التطبيع مع الكيان الاستعماريّ العنصريّ هذا فهو خائن ويجب أن يُعامل على هذا الأساس؛ إن تجريم التطبيع يجب أن يكون أحد هموم المقاومين بالقلم والقانون في أرجاء عالمنا العربيّ. أمّا جثّة اتّفاق أوسلو التي يجرجرها عبّاس خلفه فلن تودي به إلّا إلى مزبلة التاريخ، بينما المقاومون يراكمون الانتصارات والقوّة.
اليوم يدقّ الشهداء باب الحرّية بأيدٍ مضرّجة ليعيدوا إدخال شعبنا من باب التاريخ العريض، ويسكنوا ضمير الأمّة.

* كاتب وأستاذ جامعي