بعد مضيّ 10 أيام على «طوفان الأقصى»، بات أكيداً أن العملية تسبّبت بانهيار التصوّرات كافة التي شكّلها الإسرائيليون حول أنفسهم و«دولتهم» على مرّ العقود الطويلة الماضية، وأن محاولات لملمة آثار الضربة، واستجماع القوى في طريق ترميم «الهيبة»، تصطدم بكثير من الجدران والعوائق. تجلّى الجانب الأول بوضوح في تداعي «أسطورة الأمن»، و«عقد النجدة الاجتماعي» الذي تعهّدت إسرائيل بالالتزام به أمام «مواطنيها»، في ظلّ تخلّف مؤسّسات الدولة عن تأدية الأدوار والواجبات المنوطة بها، وحلول المستوطنين - وكأنهم جمعيات مدنية - محلّ «دولتهم». وفي هذا السياق، كتبت البروفيسورة شارون مرغليوت - رابين، أستاذة الحقوق في كليّة «هاري رادزينر» للقانون في «جامعة رايخمان»، أنه «حتى مساء الجمعة (ساعات قبل بدء طوفان الأقصى)، اعتقد معظم الإسرائيليين أنه إذا ما كانت حياتهم في خطر وطلبوا النجدة، فإن قوات الأمن أو الشرطة ستصل إليهم في غضون دقائق. اعتقدوا أنه سيكون هناك أحد ما إلى جانبهم في لحظات الرعب والخوف، وأنهم محال أن يُتركوا لمواجهة مصيرهم من دون إجابة»، موضحةً في مقالة لها في صحيفة «معاريف»، أن ما تَقدّم هو جوهر «العقد الاجتماعي الإسرائيلي»، وكذلك جوهر «الأسطورة التي شُيّدت عبر مئات عمليات الإنقاذ البطولية على مدار 75 عاماً من وجودنا، داخل إسرائيل وخارجها، والتي طُبّقت على جميع الإسرائيليين الذين أُسروا - عملية عنتيبي مثالاً -، مروراً بأولئك الذين علقوا في أماكن لحقت بها كوارث طبيعية، وصولاً حتى إلى إسرائيليين عرّضوا حياتهم للخطر بسبب إهمالهم».
وأضافت أن «هذه هي الروح التي ترسّخت حتى انبلاج فجر السبت؛ حيث بدأ آلاف المستوطنين يتّصلون مباشرة أو من طريق أقربائهم وذويهم بالشرطة وقوات الأمن طالبين النجدة، وهم موقنون أن الأخيرة في طريقها إليهم، وأنه في غضون دقائق قليلة سيستمعون إلى نداءات الطمأنة: نحن هُنا»، مستدركةً بأن «نطاق الأحداث التي دارت في ساحات عدّة من يوم السبت، حال دون وصول القوات إلى طالبي النجدة، لا في دقائق، ولا في ساعات...»، مقرّةً بأنه «وفي هذه الساعات المصيرية انتُهك العهد المقدّس، ليس فقط تجاه الضحايا وعائلاتهم، بل تجاهنا جميعاً. لقد توقّفنا أخيراً عن الإيمان بأسطورة النجدة الفورية، وفي لحظة واحدة انهار كلّ شيء».
وأشارت إلى أن «العقد الاجتماعي للأمن الشخصي، لم يكن يحمي حياتنا فحسب، فهو عقد إسرائيلي فريد من نوعه، ولا توجد دولة في العالم طوّرت أسطورة النجدة الفورية خلال الأحداث التي تشكّل خطراً داهماً على حياة مواطنيها مثلما فعلت إسرائيل»، مضيفةً أن ما سبق «سمح لنا بالمخاطرة على المستويَين الشخصي والوطني، ولا أحد يخاطر إلا ليقينه بأن ثمّة دولة بأكملها تقف خلفه وتبدي الاستعداد لإنقاذه. كما أن الكثير من الإبداعات والابتكارات والتنمية الاقتصادية أسهمت في شعورنا بالأمن؛ إذ وفقاً لهرم ماسلو للاحتياجات، وُضع الشعور بالأمن كأولوية وأساس لقدرتنا واستمراريتنا في تحقيق أهدافنا». ولفتت إلى أنه «في الأيام الماضية، انكشفنا على قصص بطولية من المبادرات الشخصية، لأولئك الذين تمكّنوا من إنقاذ أفراد الأسر، في مقابل بطء الاستجابة التي أبدتها قوات الأمن»، معتبرةً أنه «لئن كانت هذه القصص البطولية ملهِمة، فهي تعزّز في الوقت نفسه التصوّر الآخذ في التشكّل لدى الجمهور الإسرائيلي بأنه لا يوجد من نثق به»، محذّرةً من أن «الاعتماد المفرط على الذات قد يؤدي إلى تفكّك النسيج الاجتماعي القائم على الضمانات المتبادلة والعقد المشترك». ولذلك، ينبغي، بحسبها، «على الدولة أن تبادر إلى ترميم أسطورة الأمن، أو ترك العقد الاجتماعي لتصوغه المبادرات الفردية والجمعيات المدنية... ينبغي أن يتأكّد جميع مواطني إسرائيل من أنهم لو صرخوا طلباً للنجدة، لوجدوا من يلبّي نداءهم على الفور».
وجدت إسرائيل نفسها أخيراً مضطرّة تحت وقع الصواريخ، لإفراغ مستوطنات الجنوب من 60 ألف مستوطن


أمّا الأثر الأبرز الثاني لعملية «الطوفان» في سياق هدم أسطورة الأمن الإسرائيلية، فتَمثّل في تهشيم إستراتيجية الجدران التي تعتمدها دولة الاحتلال لحماية المستوطنات. فقبل عامين فقط، انتهى الجيش الإسرائيلي من بناء جدار عازل بطول 65 كيلومتراً حول قطاع غزة، ضُخّت في سبيل تشييده مليارات الشواكل، وأقيم لأجله احتفال رسمي، حضره رئيس هيئة الأركان السابق، أفيف كوخافي، ووزير الأمن آنذاك، بني غانتس، الذي قال حينها إن «الجدار هو مشروع تكنولوجي سيحرم حركة «حماس» من إحدى القدرات التي كانت تحاول تطويرها وهي الأنفاق الهجومية»، مضيفاً أن هذا المشروع «يهدف إلى وضع حاجز حديدي وخرساني وأجهزة استشعار بين «حماس» وسكان الجنوب... الجدار سيساعد هذه المنطقة الجميلة على الاستمرار في النمو والازدهار».
لكن لم يمضِ عامان على تدشين الجدار حتى خرقته «حماس»، محدِثةً أكثر من عشر ثغرات فيه، لتقتحمه وتهاجم المستوطنات الإسرائيلية في «الغلاف»، ما يعني أنه فشل في وظيفته الأساسية المتمثّلة في حماية «أمن الإسرائيليين»، وانعكس فشله على الأسواق العالمية المرتبطة بصناعة وتسويق وبيع تكنولوجيا الجدران نفسها، وهو ما سيلقي بتداعيات سلبية خطيرة ليس على اقتصاد هذه الصناعة وتسويقها فحسب، بل على المكانة المرموقة التي تتمتّع بها الصناعات التكنولوجية الإسرائيلية في هذا المجال، بالنظر إلى أن الاختراق انطوى في أقلّ تقدير على الالتفاف على تلك التكنولوجيا، إن لم يكن تعطيلها.
أمّا الأثر الثالث، فانعكس في إخفاق إسرائيل المتواصل منذ أيام؛ إذ بينما نصّبت نفسها وصيّة على يهود العالم، وصاغت لأجل هؤلاء عشرات التشريعات والقوانين المعدّة لاستجلابهم بموجب «حق العودة» حتى آخر جذر يهودي، في مقابل تهجير الفلسطينيين من أرضهم، وجدت نفسها أخيراً مضطرّة تحت وقع الصواريخ، لإفراغ مستوطنات الجنوب من 60 ألف مستوطن، إضافة إلى إخلاء نصف ساكني 28 مستوطنة أخرى في الشمال.